
دراسة فلسفية وجدانية لقصائد الشاعرة فوز فرنسيس ، بقلم رانية مرجية
المقدمة:
في عالم الشعر، تتداخل الكلمات لتصبح تجارب إنسانية، تؤثر في أرواحنا وتجعلنا نغوص في أعماق التفكير والتأمل. ومن بين الأصوات المبدعة التي تترك أثرها العميق في المتلقي، تأتي الشاعرة فوز فرنسيس، التي تطلق عبر قصائدها الهايكو رؤى فلسفية عميقة تُشبع العقل والقلب معًا. من خلال صور شعرية بسيطة، تتمكن فوز من تقديم تساؤلات وجودية، وتجارب إنسانية تتخطى حدود الزمن والمكان. في هذه الدراسة، سنلقي الضوء على قصائدها المختلفة من خلال عدسة فلسفية وجدانية، محاولةً فهم ملامح الشعر الذي يربط بين الجمال، والموت، والزمان، والإنسان.
- التشتت الفكري والتراجع:
“ليس تمامًا إنّما
أفكارٌ كثيرة جائلة في الرأسِ
حروفـي مُتَـقاعِسـة”
هنا، تتأمل الشاعرة في حالة التشتت الفكري الذي يعانيه الكاتب أو الشاعر في لحظة الكتابة. “أفكارٌ جائلة” تشير إلى حالة من عدم التركيز والانشغال الذهني بالعديد من الموضوعات في آن واحد. الشاعرة تُعبِّر عن حالة القلق الداخلي التي تجعل الحروف تتأخر عن الخروج، فكل فكرة تمر في عقلها تبدو غير مكتملة أو عاجزة عن الانبثاق بشكل جمالي. إنها حالة من الفوضى الذهنية التي تصيب العديد من المبدعين، فتبدو الكلمات وكأنها خائفة أو متقاعسة عن الظهور.
- البراءة والتجدد:
“في داخلي إنسان..
كم تُفـرحُني براءَته
ذاك الطّفل”
في هذه السطور، تتحدث الشاعرة عن البراءة الداخلية التي تختبئ في أعماقنا، حيث تقرأ فوز فرنسيس هذا الجانب الإنساني البسيط وتُظهر لنا أنه لا يزال حيًا رغم تعقيدات الحياة. “ذاك الطّفل” يرمز إلى الطهارة والنقاء، وكأن الشاعرة تدعو القارئ للعودة إلى الجذور والتجدد، وإعادة اكتشاف البراءة التي قد نعتقد أننا فقدناها. نجد هنا عنصراً فلسفياً عميقاً: التوتر بين النمو والتغيير وبين الحاجة الدائمة للبراءة والطهارة.
- قسوة الحياة ومفارقة العمى:
“يقرأُ النّـقاط…
بسمتُه عريضة
ذاكَ الضّرير”
هذه الصورة الشعرية تظهر قدرة الشاعرة على تعميق التناقضات البشرية. العمى هنا ليس فقط في البصر، بل في المعنى أيضًا، وكأن الشاعرة تسلط الضوء على أوجه الحياة المختلفة التي قد لا نراها بوضوح، رغم أننا نعيش فيها يوميًا. يُحيل “الضّرير” إلى شخص يعجز عن الرؤية المادية، لكنه يعوض ذلك بالقدرة على الشعور أو الفهم العميق. تضعنا الشاعرة أمام سؤال فلسفي: هل نحن فعلاً نرى كل شيء في هذا العالم، أم أننا فقط نغفل عن معانٍ أعمق؟
- الجمال والموت:
“لماذا
مع كثرةِ الموتِ
يشيخُ الجمال؟”
تساؤل عميق يطرح مشكلة فلسفية تتعلق بالعلاقة بين الموت والجمال. فبينما يعاني الإنسان من التحلل والزوال الجسدي، نجد أن الجمال يتحول تدريجيًا إلى شيء أكثر هشاشة، كما لو أن جمال الأشياء مرتبط بحياتها وزوالها في ذات الوقت. ترى الشاعرة أن كثرة الموت تجعلنا نعيد النظر في معايير الجمال، ربما لأننا نشعر أن كل شيء يتلاشى بمرور الوقت. هل الجمال يبقى أم أنه يشيخ مع مرور الزمن؟ تساؤل مفتوح يحمل بين طياته الكثير من الدلالات الفلسفية.
- الزمن والروح:
“لماذا
تعاند عقاربُ السّاعة…
نبضَ القلب”
في هذه الأبيات، يبدو أن الشاعرة تناقش الصراع الأبدي بين الزمن الداخلي والخارجي. عقارب الساعة التي تمثل الزمن المادي الذي يطارد الإنسان، تواجهه نبضات القلب التي تمثل الزمن الداخلي الأصيل. العقل البشري يعي أنه محكوم بعقارب الساعة، لكن قلبه يحمل توقيتًا آخر يتجاوز القيود الزمنية الملموسة. وهنا، تطرح الشاعرة سؤالًا عميقًا: هل الزمن هو ما نعيشه حقًا، أم أن روحنا تتبع زمنًا مختلفًا لا يمكن للساعة أن تقيسه؟
- التفاؤل في ظل الهموم:
“هُمـــوم_
قلبُـها نـَـقيٌّ لا يَتَـأفّـف
أوراقي الخـفيـفـــة”
هذه الأبيات تقدم لنا صورة عن المقاومة الداخلية أمام تحديات الحياة. في وسط الهموم والضغوط، تظل الروح نقية وصافية، لا تشتكي. هناك فلسفة من التسليم والقبول: “قلبُـها نـَـقيٌّ لا يَتَـأفّـف”. كما لو أن الشاعرة تشير إلى أن الأعباء النفسية التي نواجهها لا تحد من صفاء الروح بل تعزز من قدرتنا على تحملها.
- الانعزال والسكينة:
“وحدي على الطريق
نسيمُ ‘الجليل’ يصحبُني
تنْـشـرِحُ الرّئات..”
هنا، تتحدث الشاعرة عن لحظة من السلام الداخلي والتواصل الروحي مع الطبيعة. الطريق الطويل والوحدة تعطيان للشاعرة فرصة للتواصل مع ذاتها، بينما “نسيم الجليل” يرمز إلى الصفاء الروحي الذي يهب الحياة للنفس البشرية. هذه الصورة تمثل فلسفة الوجود الفردي في رحاب الطبيعة، حيث نجد السلام الداخلي عبر العزلة.
- لحظة الغضب وفناءها السريع:
“هبّة ريح..
سرعان ما تنطفئ
لحظةُ الغضب”
الشاعرة تتناول في هذه الأبيات فكرة العواطف العابرة، مثل الغضب، الذي لا يلبث أن يزول كما لو كان مجرد “هبّة ريح”. هذه صورة شعرية عميقة تعكس فلسفة الحياة المتغيرة، حيث تُقارن مشاعر الإنسان بالطبيعة المتقلبة، وتحثنا على التريث والتعقل أمام الانفعالات التي قد تؤثر علينا في لحظات ضعف.
- الغياب المستمر:
“في كلّ دقيقة
مئاتُ الكـلماتِ أقـرأ
أفتَـقــِدُ اسمَـك”
في هذا المقطع، تطرح الشاعرة قضية الغياب المستمر لشخص ما في حياة المتلقي، حيث يُفتقد الاسم في كل لحظة، كما لو كانت الكلمات نفسها لا تشبع الفراغ الناجم عن الغياب. العاطفة التي تحملها هذه الأبيات تنقل فلسفة الفقد والحاجة المستمرة لتذكر الأسماء والأشخاص الذين نحبهم.
- التفريق بين الزؤان والشعير:
“حقلُ سنابل
لا يُرى عن بعد…
زؤانٌ وشعير”
ختامًا، تطرح الشاعرة فكرة التمييز بين الخير والشر، بين الحقيقة والتضليل. فالحقل الذي يبدو مثمرًا عن بعد، قد يخفي في طياته الزؤان، مما يعكس طبيعة الحياة التي لا تظهر كلها كما نراها. إن الحكمة تكمن في القدرة على التفريق بين الأمور، ورؤية ما وراء المظاهر.
الخاتمة:
قصائد الشاعرة فوز فرنسيس ليست مجرد كلمات تُكتب على ورق، بل هي نوافذ إلى عالم فلسفي وجداني عميق يتنقل بين مختلف التجارب الإنسانية. تنبض قصائدها بمشاعر متناقضة، تُعبر عن البحث المستمر عن المعنى، واليقين، والجمال. بأسلوبها البسيط والعميق، تقدم لنا فوز فرنسيس تجربة شعرية تستحق أن نغوص في أعماقها ونتأمل في أبعادها.