9:56 صباحًا / 16 أبريل، 2024
آخر الاخبار

عباءة والدي بريد الرِّثاء بقلم : رشا السرميطي

بدأ الشِّتاء بالتنحي متراجعاً، حزمت أمتعة الثَّلج لفحاتها مغادرة، والمطر أخذ يجفُّ ليرائي التُّراب أمامنا، ودَّعنا الغيم حزيناً، والسَّماء ضمتنا بشوق أمٍّ خرج ابنها من سجنٍ مؤبدٍ، بدأت الأزهار بالتَّفتُّح تستقبل نيسان الأسود، ترسم ابتسامة الرضا على شفاه الأرض عدلاً بانقلاب المواسم، وحتميَّة الرَّحيل، في قانون محكمة الحياة، حكمة إلهية لا نملك الطَّعن فيها ولا الاستئناف، تزيَّنت الأعشاب بألوانها الزَّاهية، مخضَّرة تُلبس التراب ربيع عمر جديد، رغم الوجع وانتشار رحيق أنفاسنا الحزينة التي خالطت عبير الورد، مازال في العمر أحجية، هل نفرح في الدُّنيا، أم نحزن؟

أصعب حالة شعورية قد يمرُّ بها الإنسان، عندما لا يستطيع أن يحدِّد ما نوعيَّة الأحاسيس التي تكتنفه. غريبة تلك المشاعر التي تسكننا بعض ألم، ومدهش أن نبحث عن اسم لها ولا نجده في بحور اللغة الشَّاسعة، لا نعلم كيف تُسقط دموعنا فرحاً وحزناً في آنٍ واحدٍ، ترغمنا على المرور بشوارع الحيرة، متأملين مشاهد ذكرياتنا الماضية، نمر على حاضرنا ونبتاع للغد تأشيرة سفر بلا عنوان، لا نعلم ما الذي يعترينا وإلى أين نحن ذاهبون، بلا زمن ولا مكان يحدد النِّهاية لنا، نستمر في رحلة عمرنا بلا توقف ! محتضنين حقائب صبرنا والإيمان في صدرنا فقط يهدينا إلى انتقاء الحافلة الصحيحة التي ستوصل آمالنا إلى المحطة الآمنة، كي نلتقي بذات الشَّوق بعد طول الإنتظار. ربما هي الحاسة السَّابعة التي تحاكي دواخلنا، وتعبث في سكينة قلوبنا. أكتب إليك يا حبيبي، بحبر منبعه النَّبض، كلما اشتقت إليك، انزوَتْ روحي وشخصك الذي ما فارقني، بين زقاق الورق الأبيض، أحدثُّك عن الدُّنيا، وأشكو إليك أيامي وآمالي، أفتقدك في مناسباتنا وأحنُّ لقبلةٍ من شفتيك تهديني فيها احساساً بالرضى. أرغب بضمَّة محال تحقيقها، بغفوة على صدرك لن أنالها، أحنُّ للمسة من تجاعيد أكُّفك ليتني أبلغها، لصوتك، لصراخك، للثتك القاحلة بلا أسنان أشتاق كثيراً، وكم تقتلني الأماني باستحالة تحقيقها.

أعود بحافلة ذكرياتي إلى الوراء، مخالفةً جميع الإشارات الضوئية، وقانون السير في حياتنا المستقبلية – أن الماضي لن يعود – فأجد نفسي معك، في شوارع لا بشر تعرفها، ولا أرواح تسكنها، أبحث بين القبور عن ضحكات جمعتنا، وأغتسل بطهر دمع كان بكاؤنا حينه لله خالصاً، وأوقاتٍ سعيدةٍ أفرحت قلوبنا، تأخذني الأحاسيس التَّواقة بين ثنايا آمالنا الميِّتة، أرى الساعات تمضي من أمامنا كأنَّها ثوانٍ، لا قيمة للوقت بدونك يا أبي. رغم انقضاء عامين على رحيلك عنَّا، لم يزل ذات الشعور الذي راودني عندما فقدتك، وبحثت عنك فما وجدتك. دفاتري بقيت وفيَّة لعهد كنَّا به معاً، متصلين جسداً وروحاً، حلماً ويقظةً لا يعترف بها سوانا !

كلما أفكِّر فيك، تأخذني السُّطور على مقربة منك، تحملني الكلمات بلا أجنحة، لتحطَّ الآيات من على شفاهي اللاهجة فوق جبينك، أسقي التراب من نزف القلب وآهاتي، صبراً يؤازر الإيمان، وأملاً بأن تجمعنا ذات الجنة، عندما أصير إليك، رحمة يباهي فيها الله خلقه، حين يقول لهم ذاك عبدي، أنجب نعم الأنثى، ورباها خير الخلُق دين الإسلام، خذوهما إلى لؤلؤة تجمعهما في الوسيلة، فإني عنهما قد رضيت.

أيا أبي، دعني أخبرك: أنَّ جميع زوايا البيت لم تزل ممتلئة بدفئ يديك، جميع ما زرعت في الدنيا يسبح ليلاً ونهاراً ذاكراً لنا عملك، ومقاعد أحلامك على وتر الانتظار لم يزل بعد، تنادينا كلما منها اقتربنا، وتحثنا على الاستمرار بما تمنيَّت، خواطر قلمي شاهدة يا والدي على ما نظمت وبدأت، ولسوف أكمله عنك، فلولاك ما كنت سوى رهينة للحزن، وما غادرت آلامي وبكيت. أيها الرَّاحل جسده عنَّا في صدري له قصراً بنيت، روحك ما برحت تفارقني كل قيام وصلاة أسجدها، وتبقى الذِّكريات.

ألا ليت السنون تعود بك إلينا، لنرجع أطفالاً نلعب في شعرك، ونتدحرج على ظهرك، حتى نصبح في حجرك نتدلل، كي نعيش الأمان الذي نحتاج إليه الآن، فنصحو على فرح محيَّاك الذي قهر الدُّنيا، وأورثنا التفاؤل واللاقنوط من رحمة الله، كم أنت عظيم يا والدي. أتذَّكر منقل الفحم الذي كنت تجمعنا حوله، وسدر الكنافة النابلسية التي كنت تعدُّها لنا في ذكرى رحيل أبيك وعمك، أتراك إلتقيت بهم الآن؟ لطالما أغدقت على من حولك بالحنان، وهل في الدنيَّا من يحنُّ إليك كما نحنُ الآن؟ علمتنا معنى الحُّب الحقيقي الذي يكون عماد متانة الأسرة، فلا تنهار رغم الهزّات التي قد تمُّر بها، ولا زلازل الحياة قد تحرِّك ثباتها، لقد غمرت أمي بالحب والصدق والإخلاص، فكانت الوفيَّة التي عند الله لا تضام، وأنشأتمونا بجوٍ من الإيمان، جعل منا إخواناً يجمعنا الوئام.

أبي، في الخامس من نيسان شعرت بك، وأصابني برد الغياب، كانت ليلة حزن قارصة، ذهبت إلى خزانتي، كي أُلبس جسدي معطفاً من السكينة، فإذا بعباءتك تتحرش بأشواقي، وتستدرجني نحوك، تشدتني بقوَّة كي أجرؤ على الإقتراب منك، لمست صوفها برعشة حبيبة تأخذ القبلة الأولى من حبيب عاد بعد الرحيل، لثمتها وتحسست أجزاءها، وبهلع أم الشَّهيد عانقتها، ولعٌ أشعل أشواقي الصامتة، راغبة في لقائك أمسكت بها، بحبٍ أخذتها إلى صدري وبكيت، سقط الدَّمع على وجنتي حنيناً يناديك، ولا أدري، كم بقي من عمري لأحبك أكثر !

قررت أن ألبس عباءتك الليلة، وأمدد جسدي على سرير الذكرى، فعندما أتذَّكر، أرتاح كثيراً. أفتقدك يا أمنية لن تكون، وأعترف بأنني أقضي الليل منذ رحلت عنَّا أفتش في طرقات الحنين عنك، أجول الذَّاكرة التي لم تفرِّط بشيء منك، يتعبني العيد إذا ما جاءنا بدونك، وكيف للنَّفس أن تفرح، وسنوات عمري تقبل وأنت رحلت؟

كلما أنهكني المسير في دروب الدنيا الشائكة، وجدتك في أحلامي، ناصحاً ومرشداً وموجهاً، عودتني على اللقاء، والورق شاهد على ذكرى الخلود والبقاء. سأظل أحتفظ بك نبضاً يعمِّر فؤادي، وأملاً لا يفارق خاطري، سوف أعلِّم نفسي وأجاهد فطرتي كي تحبَّ طول المسافات النائية بنا إلى المصير عندك، كي تستقبلني وأذرعك مفتوحة، وتعانقني بذات الشَّوق، قائلاً: رضوان الله عليك يا بنيَّتي.

مذكرة حلم ليتها كانت حقيقة، كتبت بمناسبة الذكرى الثانية لوفاة والدي: سيف الدين السرميطي- رحمه الله.

ابنتك المشتاقة إليك .. رشا

شاهد أيضاً

شهيدان برصاص مستوطنين في خربة الطويل جنوب نابلس

شفا – استشهد مواطنان، مساء اليوم الإثنين، متأثرين بإصابتهما برصاص مستوطنين في خربة الطويل شرق …