12:42 مساءً / 26 أبريل، 2024
آخر الاخبار

رسائل ” ألبير كامو “

شفا – كان الروائيُّ و المفكرُ الفرنسي ” البير كامو ” ( 1913 ـ 1960 ) قد كتبها خلال فترة الإحتلال النازي لفرنسا ، و هي مهداةٌ بمجملها الى روح شاعرٍ و كاتبٍ فرنسي إسمُهُ ” رينيه لينو ” ، الذي كان ناشطاً في المقاومة الفرنسية ضد الإحتلال فألقى النازيون القبض عليه و أعدموه . و تأتي رسائل ” كامو“ هذه بمثابة تكريم لذلك الشاعر المقاوم الراحل ، و كان قد كرّمَهُ من قبلُ بكتابة مقدمةٍ لمجموعتِهِ الشعريةِ التي نُشرت بعد موته .

رسائل الى صديق آلماني

إلى رينيه لينو

كنتَ تقول لي : ( مجد بلادي ليس له ثمن . كل شيء يهون من أجله . و في عالم لم يعد له معنى ، هؤلاء مثلنا ــ نحن الشباب الألمان ــ لهم ألحظ بأن يجدوا ذاك المعنى في قدَر أمتهم ، عليهم أن يضحوا بكل شيء من أجله ) . كنتُ أحبك ، ولكن… هنا افترقت عنك . ( لا.. ، كنتُ أقول لكَ لا يمكن أن أعتقد بأنه يمكن خدمة هدف نسعى إليه بكل شيء . هناك وسائل لا يمكن غفرانها . و أنا ، أريد أن أتمكن من حب بلادي مع حبي للعدالة ، في الوقت ذاته . لا أريد لها أي مجد مصنوع بالدم و الأكاذيب . أريد لها أن تعيش في ظل العدالة ) . قلت لي : ( إذاً ، أنت لا تحب بلادك ) .‏

كان ذلك قبل خمس سنوات ، و منذ ذلك الوقت افترقنا . أستطيع أن أقول أنه لم يمر يومٌ واحدٌ من هذه السنين الطويلة ( الوجيزة جداً و الساطعة بالنسبة لكم ) إلا و عبارتك كانت في ذاكرتي : ( أنت لا تحب بلادك ) ، حين أفكر اليوم في هذه الكلمات شيءٌ ما يعتصر في حلقي . لا.. ، لا أحبها إذا لم يكن يعني الحب ، أن تلغي ما هو ليس عادلاً في ما تحب ، إذا لم يَعنِ أن نسعى أن يكون محبوبنا على الصورة الأكثر جمالاً التي رسمناها عنه . قبل خمس سنوات من هذا ، كان أناسٌ كثرٌ في فرنسا يفكرون كما أفكر . على الرغم من ذلك ، وجد بعضهم نفسه أمام العيون السوداء الصغيرة الإثنتي عشر للقدَر الألماني . هؤلاء الرجال ، الذين لم يحبوا بلادهم ، كما تعتقد ، عملوا لأجلها أكثر مما لن تفعله أبداً لأجل بلادك ، حتى و لو كان بإمكانك أن تعطيها حياتك مائة مرة . لأنهم قهروا أنفسهم أولاً ، وهنا تكمن شجاعتهم . غير أني أتكلم هنا عن طبيعتين للمجد وعن تناقضٍ عليّ أن أوضحه لك .‏

سنلتقي قريباً ، إذا كان هذا ممكناً : إلا أن صداقتنا ستكون قد انتهت . ستكون طافحاً بهزيمتكم و لن تشعر بالعار من نصركم القديم ، ستندبه أكثر من كل قواك المحطمة . اليوم ، ما زلتُ قريباً منك بالروح ، صحيح أني عدوك إلا أني ما زلت صديقاً لك لأني أمنحك كل أفكاري . غداً سينتهي كل شيء . نصركم لن يستمر ، هزيمتكم تقترب . على أي حال ، قبل أن ندخل في اللامبالاة وعدم الاكتراث ، أريد أن أترك لك فكرة واضحة ، بأنه لا السلام و لا الحرب جعلاك تتعلم من مصير بلادي .‏

أريد أن أقول لك ، حالاً ، أي نوع من المجد يجعلنا نبدأ السير . ولكن ، عليك أنت أن تقول أي شجاعة نصفق لها نحن ، شجاعة لا تملكها أنت . شيء لا أهمية له أن تعرف اقتحام النار و أنت تتهيأ لذلك منذ أمد بعيد . و عندما يبدو لك السباق طبيعياً أكثر من الفكر . بالمقابل ، إنه لعظيم أن يتقدم المرء نحو التعذيب و نحو الموت ، حين يعلم علم اليقين أن الحقد و العنف أشياء عبثية بذاتها . إنه لعظيم أن يقاتل و هو يحتقر الحرب ، أن يقبل ضياع كل شيء و هو يقبض على طعم السعادة . و أن يركض نحو الدمار و هو يحمل فكرة حضارة متفوقة . لذلك نحن نجهدُ أكثر منكم ، لأن لدينا ما نؤاخذ به أنفسنا ، و ليس لديكم ما تقهرونه في قلوبكم و لا في فكركم . كان لدينا عدوان … و النصر بالسلاح وحده لا يكفينا مثلكم فأنتم ليس لديكم ما تتغلبون عليه .‏

كان لدينا الكثير لنتغلب عليه ، ربما كي نبدأ الإغواء الدائم حيث نشبهكم ، مادام هناك دائماً فينا شيء متروك للغريزة ، لاحتقار الفكر ، لتقديس القوة ، تفضي فضائلنا الكبرى لإضجارنا ، يشعرنا الفكر بالعار و نحن نتخيل أحياناً بعض الوحشية السعيدة حيث تكون الحقيقة بلا جهد . ولكن حول هذه النقطة .. الشفاء سهل : أنتم تشيرون علينا ما يكون عليه الخيال من ذلك ، و ها نحن ننهض من جديد . إذا كنت أؤمن ببعض الحتمية للتاريخ ، لربما افترضت أنكم بجانبنا خَدَماً للفكر ، فمن أجل ردنا للصواب ، عندئذ تعود إلينا الروح التي نكون فيها أكثر سعادة .‏

لكن ، ما زال علينا أن نتغلب على هذه الريبة و نحن نتمسك بالبطولة . أعلم أنك تظننا غرباء على البطولة . إنك مخطىء . ببساطة ، نمارسها و نرتاب منها في آن واحد . نمارسها لأن عشرة قرون من التاريخ علمتنا الأشياء النبيلة . نرتاب منها ، لأن عشرة قرون من الفكر علمتنا فن ما هو طبيعي و مزاياه . و لكي نمثل أمامكم ، وجب علينا أن نعود من بعيد . و لأجل هذا ، نحن متأخرون عن أوروبا اللاهثة وراء الكذب فيما كنا نحن نبحث عن الحقيقة . لأجل هذا ، ابتدأنا بالهزيمة ، فيما كنتم تنقضّون علينا ، كنا نبحث في قلوبنا فيما إذا كان الحق في جانبنا .‏

كان علينا أن نقهر مَيلنا للإنسان ، الصورة التي صنعناها لأنفسنا عن مستقبل سلمي ، هذا الاعتقاد الراسخ بأن ثمن أي نصر لا يعوض ما دام أي تشويهٍ للإنسان هو تشويهٌ لا عودة عنه . كان يجب علينا أن نتخلى في آن عن علمنا و عن أملنا و عن دواعي الحب و عن بغضنا للحرب . كي أقول ، كل هذا في كلمة واحدة ، أفترض أنك ستفهمها ، كلمة آتية مني ، أنا الذي كنتَ تحب أن تصافحه ، بأنه : وجب علينا أن نكتم شغفنا بالمحبة .‏

الآن كل هذا اكتمل ، كنا بحاجة إلى عودة طويلة ، نحن متأخرون جداً . إنها العودة إلى الفكر التي صنعها شك الحقيقة ، إنها العودة إلى القلب التي صنعها شك المحبة . هذه العودة هي التي أنقذت العدالة ، و وضعت الحقيقة إلى جانب الذين يتسألون دفعنا ثمنها غالياً ، دون شك ، دفعناه بالإذلال و بالصمت ، بالمرارة ، بالسجن ، بصباحات الإعدام ، بالهجران ، بالفراق ، بالجوع اليومي ، بالأطفال النحيلين ، و زيادة على ذلك العقوبات الجبرية ، إلا أن كل هذا كان طبيعياً . كان يلزمنا كل هذا الوقت ، كي نرى إذا كان يحق لنا أن نقتل الإنسان ، إذا كان يحق لنا أن نضيف بؤساً لبؤس هذا العالم . و هذا الوقت الضائع المستعاد ، هذه الهزيمة التي قبلناها و تجاوزناها ، هذه الشكوك المدفوعة بالدم ، هي التي تعطينا الحق اليوم ، نحن الفرنسيين ، بالاعتقاد بأننا دخلنا هذه الحرب بأيدٍ نظيفة ــ نظافة الضحية و المهزوم ــ و بأننا سنخرج منها بأيدٍ نظيفة ، لكن هذه المرة نظافة النصر الكبير ضد الظلم و ضد أنفسنا نحن .‏

سنكون المنتصرين ، إنك لا تشك بذلك . ولكننا سنكون منتصرين بفضل هذه الهزيمة نفسها ، بفضل هذه المسيرة الطويلة التي جعلتنا نجد حجتنا ، لهذه المعاناة التي شعرنا بها بالظلم و أخذنا منها الدرس . تعلمنا فيها سر كل نصر ، و إذا لم نفقده ، سنعرف النصر النهائي . تعلمنا فيها نقيض ما كنا نعتقده أحياناً ، الفكر لا يستطيع عمل شيء ضد السيف ولكن حين يتحد الفكر بالسيف فإنه المنتصر الخالد . لأجل هذا ، قبلنا الآن بالسيف بعدما تأكدنا أن الفكر معنا . و قد لزمنا لأجل هذا ، رؤية الموت و المخاطرة بالموت ، لزمنا لذلك النزعة الصباحية لعامل فرنسي يمشي إلى المقصلة ، في أروقة سجنه ، حاضاً رفاقه ، من باب لباب ، لإظهار شجاعتهم . لزمنا في النهاية ، من أجل أن نستحوذ على الفكر عذابُ الجسد . لا نملك إلا ما دفعناه ، دفعنا غالياً و سندفع أيضاً ، ولكننا نحمل ثقتنا ، أسبابنا ، عدالتنا : هزيمتكم مقبلة لا محالة .‏

لم أؤمن أبداً بقوة الحقيقة بذاتها . ولكني على يقين بأنه في حال امتلاك الحقيقة و الكذب قوة متعادلة فإن الحقيقة هي التي تتغلب . توصلنا إلى هذا التوازن الصعب . نقاتل اليوم استناداً إلى هذا الفرق . و سأسعى لأن أقول لك بأننا نقاتل بالضبط لأجل هذه الفروق ، إنها فروق لها أهمية الإنسان ذاته . نقاتل من أجل الفارق الذي يفصل التضحية عن الوهم ، و الطاقة عن العنف ، و القوة عن القساوة ، لهذا الفارق الدقيق الذي يفصل الخطأ عن الصح ، و الإنسان الذي نأمله عن الأرباب القذرة التي توقرونها .‏

هذا ما كنت أريد أن أقوله لك ، ليس فوق العراك ، ولكن من داخل العراك ذاته . بهذا أردت أن أرد على ( أنتم لا تحبون بلادكم ) التي ما زالت تطاردني . غير أني أريد أن أكون واضحاً معك . أعتقد أن فرنسا أضاعت قوتها و سيطرتها لوقت طويل و يلزمها لوقت طويل صبرٌ يائس ، ثورة حذرة كي تجد حصتها من الفتنة الضرورية لكل ثقافة . غير أني أعتقد أنها أضاعت كل هذا لأجل أسباب نظيفة . و لأجل هذا ، لم أفقد الأمل . هذا هو كل معنى رسالتي . هذا الإنسان الذي رثيتَ ـــ منذ خمس سنوات ـــ تردده اتجاه بلاده ، هو نفسه الذي يريد أن يقول لك ولكل هؤلاء من عصرنا في أوربا و العالم : ( أنتمي إلى أمة رائعة ، مواظبة رغم ركام أخطائها و ضعفها ، لم تفقد الفكرة التي صنعت كلَ مجدها ، يبحث شعبها دائماً و مثقفوها دون توقف للتشكل من أفضل إلى أفضل . أنتمي إلى أمة تستأنف منذ أربع سنوات تاريخها و التي من بين الأنقاض تستعد بهدوء و بثقة لأن تعمل تاريخاً آخر و أن تجرب حظاً في لعبة دون ورقة رابحة ، هذه البلاد جديرة أن أحبها حباً صعباً ، متطلباً كحبي . و أعتقد أنها تستحق الآن أن نناضل من أجلها لأنها جديرة بحب كبير ، على النقيض من أمتك التي لم يكن لها من أبنائها إلا الحب الذي تستحقه ، الحب الأعمى . لا يمكن تسويغ أي حب لأجلها ، هذا ما جعلك تخسر . أنت الذي كنت مهزوماً في انتصاراتك الكبيرة ، كيف سيكون حالك في الهزيمة التي تتقدم ) .‏

تموز 1943‏

ـــــــــــ

ترجمة : ” عماد موعد ” مجلة الآداب الاجنبية – مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق – العدد 93 / شتاء 1997 .

شاهد أيضاً

قوات الاحتلال تعتقل شاباً من مخيم بلاطة وسط اشتباكات مسلحة

قوات الاحتلال تعتقل شاباً من مخيم بلاطة وسط اشتباكات مسلحة

شفا – اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، صباح اليوم الجمعة، شابا فلسطينيا، من مخيم بلاطة شرق …