كلاهما خطر، ولكن من هو الأخطر؟
ومن سيسدد الضربة القاضية القاصمة للقضية الفلسطينية؟
الإحتلال هو الخطر الأم والأساس الذي يحدق بالجميع، والإنقسام هو الخطر الإبن العاق لوالديه ممن يقبعون تحت الإحتلال. وكم من الأبناء العاقين أضاعوا أنفسهم وأضاعوا والديهم، ودمروا حاضرهم لينعكس على مستقبلهم سوءاً ويشوه تاريخ آبائهم وذلك بقلة وعيهم وسوء تصرفهم وانحرافهم.
لو ضربنا مثلاً بالكيان الإقتصادي لشركة ما بدأت بشخص، ثم دخل معه شركاء من أبنائه وأصبحت شركة عائلية، وبعد ذلك توسعت مساهماتها على الراغبين القادرين من مختلف أبناء المجتمع وذلك لتدعيم وتوسعة نشاطاتها، مع استمرار الشخص المؤسس في قمرة القيادة والسيطرة والتحكم والقبض على نصيب الأسد من الحصص بالشركة، وذلك بفضل التاريخ والقدرة على تسيير الأعمال المكتسبة من الخبرة ومن الوعي في حساب المخاطر التي تهدد الكيان بالإنهيار.
ومع مرور الزمن كبرت الشركة وكبرت أعمالها وزادت أرباحها وامتدت الى العالمية بفعل القدرة على التحكم والسيطرة وضبط الأمور المالية والإدارية، وتنشيط العلاقات الداخلية والخارجية، وتقارب وتوافق وجهات نظر الشركاء، ووحدة القرار فيما يختص بنمو الشركة وتقدمها وازدهارها.
وبعد مرور الزمن على مسيرة الشركة الناجحة، بدأ المؤسسون بالتساقط واحداً تلو الآخر، ومن هذه اللحظة يبدأ التنافس بين أبناء الشركاء على المصالح والعوائد المتأتية من هذه الشراكة المتينة التي أسست بالتوافق بين المؤسسين. ويكون الصراع الخارجي محتدماً على أشده بين أبناء الشركاء من جهة، والصراع البيني الداخلي بين أبناء الشريك الواحد فيما بينهم بخلافات بينية داخلية من جهة أخرى، ويعززها خلافات خارجية بفعل التجاذبات والإستقطابات والتنافرات الناشئة بين كافة أبناء الشركاء المؤسسين وذلك للسيطرة على أكبر الحصص من عوائد ومصالح الشركة.
ولكن تأثير الصراعات البينية هو الأخطر والمسبب للتفتيت والشرذمة. فلو كان العيب في البنيان ظاهرياً لتم تشخيصه ومعالجته كمعالجة المرض المعروف، ولكن الخطر الداهم يكمن في الصراعات البينية الداخلية حيث أن الخلل الداخلي في البنيان يصبح من الصعوبة بمكان وزمان تشخيصه وعلاجه، فيصعب حصر أسبابه فيكون علاجه معقداً ومكلفاً جداً وغير مضمون العواقب والنتائج. فهو بمثابة السوس الذي ينخر الصخرة الكبيرة من الداخل دون شعور بذلك الى أن تأتي لحظة الإنشطار والتفجير دون سابق إنذار فتتحول الصخرة الكبيرة الى حصىً وحجارة صغيرة تندثر في تراب الأرض وتفقد صفتها الوحدوية وتتراجع مقاومتها لعوامل التعرية لتسقط بالضربة القاضية بفعل السوس الذي نخرها من الداخل.
كان المؤسسون ينظرون الى المصلحة العليا للشركة، فكل واحد منهم يعرف ما له وما عليه بهذا النطاق المحصور، ويفهم جيداً أنه كلما نمت الشركة بأرباحها نمت تبعاً لذلك مداخيله التي تكفي لإعالة اسرته المحدودة والعيش بكرامة. وإن كان أحدهم ينوي زيادة حصته فيتم ذلك بالتفاهم والتوافق والتراضي مع الشركاء، حيث أن شقة الخلاف بينهم في أضيق حدودها. وإن كانت هنالك مقاومة للشركاء لأي خطر محدقِ بالشركة، تكون تلك المقاومات متصلة على التوالي لتشكل في مجموعها مقاومة قوية مانعة للسقوط في تيار الفرقة والإنقراض. فكانت المخاطر التي تهدد الشركة عاملاً قوياً يدفع باتجاه توحيد طاقات الشركاء ورص مقاوماتهم لتكون سداً منيعاً ضد السقوط والإنهيار أو الإبتلاع من حيتان بحر الإقتصاد المتربصين.
كم من الكيانات الإقتصادية التي بدأت فردية، ثم تحولت الى عائلية، وبفعل الخلافات البينية العائلية والأطماع الخارجية من حيتان الإقتصاد تحولت الى مساهمة عامة، وخرج منها المؤسسون كخروج الشعرة من العجين. وفقدت صفات النشوء واستبدلت شعارها القديم بشعارها الجديد. متنكرة لماضيها ولتاريخها ولفرسانها المؤسسين. وأقرب مثال على ذلك البنك العربي.
الإحتلال هو الخطر الخارجي من عدو مشترك لأي كيان مجتمعي يمارس عليه الإحتلال جاثماً على صدور الجميع، ويفترض طبقاً للفطرة أن يكون سبباً لتوحيد أعضاء وجماعات الكيان المحتل في مشاعره ومقاوماته لهذا الإحتلال، وهو بمثابة الورم الحميد الذي يقاومه الجسم ويحصره في دائرة معينة ومنطقة محددة من الجسم، وعند اجتثاث هذا الورم ستزول آثاره المزعجة والمؤلمة لهذا الجسم. وهو حميدي لأنه يوحد المشاعر والمقاومات ويسهل علاجه بالإيمان والصبر على البلاء حتى تتوفر ظروف المريض لعمل عملية الإجتثاث فيرتاح الجسد وتهدأ النفس.
الإنقسام هو الخطر الداخلي الذي يخلقه الضحية لنفسه نتيجة لقلة وعيه وسوء إدارته للأزمة ونتيجة لإنقسام رأيه وعدم لجوئه للحوار البناء والتفاهم والتوافق بين أعضاء الجسد في مقاومة هذا الخطر، وهو بمثابة الورم الخبيث، الذي تضعف أمامه مقاومة الجسد حيث تتعاكس قوى المقاومة بالإتجاه وكأنها موصولة على التوازي لتنتج محصلة مقاومة تقل في مقدارها عن مقاومة عضو واحد، فيمتد الورم من عضو الى عضو مكتسحاً المقاومات المضادة، فيستشري الوباء ويستفحل الى أن يفتك بالجسد ويفنيه بالضربة القاضية.
ما يحدث على الساحة الفلسطينية من ممارسات سياسية فقط، (نقول سياسية فقط وبكل أسف) حيث انتهت المقاومات الفعلية الجماعية على الأرض، واقتصرت على المقاومات الخطابية والكلامية على المستوى الكلي والعضوي للجسد الفلسطيني، ولم يتبق الا مقاومات من الخلايا الفردية للجسد الفلسطيني، كمقاومة هدم البيوت، ومقاومة حرق المزارع والمحاصيل، ومصادرة الأراضي لبناء المستوطنات، والتصدي لفجاجة ووقاحة قطعان المستوطنين، مقاومات فردية هنا وهناك متصلة على التوازي، وفي محصلتها لا تحدث فعلاً جماعياً مقاوماً ومؤثراً على الأرض وعلى الرأي العام العالمي، ولا يوجد لصوته صدىً مسموعاً ولا مانعاً أو صاداً للخطر المعاكس المتعاظم والداهم والفاعل على الأرض من قبل المحتل.
من يقرأ القرآن بقلة بين الحين والآخر ويتدبر معانيه ويتفكر في آياته وأمثاله وقصصه خير وأكثر فاعلية ممن يحفظه عن ظهر قلب، ويردده بكثرة كل حين بالترتيل تارة والتجويد تارة أخرى من أجل الخشوع النفسي للخالق ولمصلحة شخصية ذاتية تعود على نفسه فقط دون التدبر والتفكر في معانيه ليخدم من خلال هذا التدبر المصلحة العامة للناس.
لم يخلق الله هذا الكون، ويبعث فيه الكائنات الحية والجمادات عبثاً، ولكنه خلقه بقوانين طبيعية تحفظ اتزانه وأودع في خلقه فطرة تلقائية لمقاومة التهلكة. فلو تفكرنا في ظواهر هذا الكون لأخذنا منه العبر والمواعظ التي تفيدنا في حياتنا. فلو أمعنا النظر في مخلوقاته من الكائنات الحية التي وهبها الله عقلاً يقل في مقدرته عن عقل الإنسان لأدركنا ما نحن فيه من ضلال مبين.
فلو دققنا في أساليب الحيوانات في الدفاع عن نفسها ومقاومة الأعداء، لإتقاء التهلكة والمحافظة على حياتها، لأدركنا كم نحن أغبياء وقد ضللتنا نفوسنا وأعمتنا مصالحنا الشخصية عن مصالحنا العامة فمثلاً من ظواهر الطبيعة الفطرية:
حيوان السنجاب: يعيش في وحدات عائلية في جحور تحت الأرض يبنيها لنفسه، وعندما يخرج من جحوره في جماعات بحثاً عن الطعام، يعين من عائلته حارساً واقفاً على رجليه طيلة الرحلة يعمل مراقباً وراصداً للأجواء ضد الخطر الخارجي على الجماعة من العدو المشترك لها، حيث يقوم الفرد المكلف بالرصد بإرسال إنذار للجماعة عندما يلمح نسراً في الجو يترصد أعضاء الجماعة لكي يفترس إحداها. وعندما تجد السناجب طعاماً تختلف عليه فيما بينها، ولكنها تنسى خلافاتها البينية عندما تشعر بخطر خارجي مشترك وتسخر قواها وتتحد لدرء الخطر الخارجي الذي يعلو في مخاطره عن الخطر الداخلي، فتترك الطعام وتهرب الى الجحر..
وكذلك حيوان النوء: إنه يعيش في قطعان عائلية، ويتجمع في صفوف مرصوصة أمام الأسد المفترس، يتقدمهم في الصفوف الآولى الأقوياء ذوي المقاومات العالية، يقفون جنباً الى جنب بالصف الأول في خط المواجهة، ويحيط القطيع بصغاره في وسط المجموعة المتراصة، وذلك لحماية صغارها من خطر الإفتراس نظراً لضعف مقاوماتها. ويأمل القطيع المتحفز للمقاومة بدرء المخاطر كلياً عن كافة أعضائه أو تقليلها الى حدها الأدنى كأضعف الإيمان. على الرغم من أنها تختلف على مصالحها الشخصية الفردية وتتناطح في تنافسها على الأكل وفي تنافس ذكورها على التزاوج، ولكنها تنسى هذه الخلافات الفردية وتتحد فوراً وتلقائياً في مواجهة الأخطار الخارجية المشتركة.
من يتدبر الظواهر الكونية، ويتعظ بالأمثال (التي اتخذها الخالق نهجاً في رسالاته السماوية وخاصة في القرآن الكريم) وذلك لتعليم عباده من الناس وتوعيتهم لإدراك مصالحهم الشخصية والعامة بحيث لا تصطدم المصلحتان، وإن اصطدمتا يكون النصر والفوز للمصلحة العامة، ومن يتأمل في خلق الله لا بد وأن يعي ويتحسس مخاطر الإنقسام العالية والتي ربما تسقط القضية الفلسطينية بالضربة القاضية القاصمة.
يصعب على العقل الإنساني أن يتفهم قدرة الحيوانات بعقلها المحدود وفطرتها على تنظيم حياتها وتجميع طاقاتها وتوحيد مقاوماتها في مواجهة الأخطار الخارجية التي تتهددها على الرغم من صراعاتها الداخلية واختلاف مصالحها الشخصية، في حين أن الإنسان بعقله المتطور على عقل الحيوان بدرجات عالية يعجز عن عمل ما تعمله الحيوانات في تنظيم حياتها والدفاع عن مصالحها أمام الأخطار الخارجية المشتركة!
إذن وبكل تأكيد الإنقسام هو الأخطر والأخطر والأخطر وهو الورم الخبيث الذي يفتك بالجسد الفلسطيني ويهدده بالفناء لا سمح الله.
فهل من متدبر ومتفكر ومتعظ يستنهض ضميره الوطني الفلسطيني، وخاصة من القيادات المسلطة على رقاب شعبنا، ويبادر الى إنهاء الإنقسام والخلافات البينية لمواجهة الخطر الخارجي المشترك، فيكسب رضى الله ورضا الناس ويفوز بإحدى الحسنين.
استفيقوا من سبات ضمائركم النائمة على ملذات الدنيا أيها الممسكون بالقرار الوطني الفلسطيني. ولن يرحمكم التاريخ المشرف لهذا الشعب والذي شوهتم صورته بإنقسامكم وشرذمتكم. فمن يصر على بقاء الإنقسام وترسيخه لمصالح شخصية ضيقة يتقاطع في أهدافه سواءً كان واعياً لذلك أم مُضللاً مع أهداف العدو المشترك، ويصنف في عداد الأعداء إن تمادى في غيه وهو يدرك مخاطر هذا الإنقسام على العامة، تلك المخاطر التي لا تخفى على الطفل الصغير.
شاهد أيضاً
المنظمات الاقتصادية الدولية الرئيسة متفائل بالنمو الاقتصادي الصيني طويل المدى بقلم : تشو شيوان
المنظمات الاقتصادية الدولية الرئيسة متفائل بالنمو الاقتصادي الصيني طويل المدى بقلم : تشو شيوان التقى …