12:54 مساءً / 10 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

ليلة في وسط عمّان ، بقلم : محمد علوش

ليلة في وسط عمّان

ليلة في وسط عمّان ، بقلم : محمد علوش

انطلقت من فندق “نيو بارك هوتيل” في وسط عمّان، أجرّ خطايَ على مهل نحو ذاكرة مدينة لا تنام، مدينة تحفظ وجوه ناسها كما تحفظ الأغاني القديمة دفءَ مقاماتها.


كانت الليلة عمانيّة خالصة، تتدلّى من شرفاتها رائحة البنّ، وتنساب من مقاهيها أصوات العود والضحك وأحاديث العابرين.


تحت أضواء الشارع المائلة إلى الصفرة، بدت الأرصفة كأنها تروي حكايات عشّاق وأدباء وتجار مرّوا من هنا، وتركوها على حالها، جميلة رغم التعب.


عند زاوية المقهى القديم، كان بخار القهوة يعلو كقصيدة في صعودها الأول، فاقتربت من فنجاني كما يقترب الحنين من أوّل غيم الخريف، ورشفة واحدة كانت كافية لتعيدني إلى ليال مضت في طولكرم ورام الله، فالقهوة في عمّان تشبه فلسطين، مُرّة حيناً، وعذبة حيناً آخر، لكنها لا تنسى أبداً.


تابعت السير نحو باعة الكتب الممتدّين على الأرصفة، أولئك الحالمين الذين يحرسون الحبر كما يحرس الوطن.. كتبٌ قديمة، مغلّفة برائحة الورق الأصفر والزمن، تتجاور فيها عناوين ماركس ونجيب محفوظ ومحمود درويش.


توقّفت عند أحد الأكشاك، قلّبت بعض العناوين، وتحادثت مع البائع الذي حدّثني عن الزمن الذي كانت فيه عمّان ملتقى المثقفين والطلاب والمناضلين، يلتقون هنا قبل أن تفرّقهم المنافي والخرائط.


مررت بعدها أمام بعض دور النشر التي ما زالت تصرّ على البقاء، رغم أنف السوق وضجيج الحداثة، في واجهاتها تتلألأ أغلفة جديدة، تشي بأنّ ثمة من لا يزال يؤمن بالكلمة وبقدرتها على مقاومة النسيان.


تسلّلت بعد ذلك إلى أحد المطاعم الصغيرة في الحيّ، وطلبت منسفاً أردنياً في الكاسة، كانت الوجبة بسيطة في شكلها، عميقة في معناها؛ فكلّ لقمة منها كانت تروي سيرة جيرة ومصير مشترك بين فلسطين والأردن، حيث تتعانق الرائحة بالنكهة، كما تتعانق الذاكرة بالهوية.


واصلت طريقي على طول الشارع الممتدّ نحو البلد، حيث المحالّ المضيئة تعرض المطرزات الفلسطينية والأردنية، وكأنها خيوطٌ تنسج حكاية واحدة عن شعبين متجاورين في القلب قبل الجغرافيا، وكانت الثياب المطرزة بالأسود والأحمر تلمع تحت الضوء كنجوم صغيرة في سماء المدينة، ولم تكن مجرّد قطع قماش، بل ذاكرة مطرزة بإبرة الصبر وأصابع الأمهات.


وقفت عند منتصف الطريق، نظرت حولي، وجوه الناس، ضحكات الشباب، نداءات الباعة، صدى السيارات المتعجّلة نحو الغد، وعمّان هذه الليلة بدت لي كأمّ حنون تضمّ أبناءها القادمين من كلّ الجهات، وفي تلك اللحظة، أحسست أني أودّ أن أؤجّل سفري إلى اليابان يوماً آخر.. فقط لأعيش مع هذه المدينة ليلة جديدة، لأكتبها كما تكتب القصائد التي لا تختتم إلا بنقطة من نور.


غادرت الشارع على مهل، والقهوة ما زالت تعبق في أنفي، وعمّان — كما عرفتها في تلك الليلة — كانت مدينة تشبه الحنين؛ تسكنك أكثر مما تسكنها.

شاهد أيضاً

مقررة أممية : الأدلة تظهر تعذيب أسرى من قطاع غزة منذ فبراير عام 2024 وإسرائيل خارج المساءلة

مقررة أممية : الأدلة تظهر تعذيب أسرى من قطاع غزة منذ فبراير عام 2024 وإسرائيل خارج المساءلة

شفا – قالت المقررة الأممية المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيزي “إن الأدلة تظهر تعذيب …