ثقل لا يُرى .. (من كتاب اصوات مكسورة ، وجوه معلقة) بقلم : ماتيلدا عواد

ثقل لا يُرى .. (من كتاب اصوات مكسورة، وجوه معلقة) بقلم : ماتيلدا عواد

جلس الرجل في منتصف الغرفة كتمثال عالق بين لحظتين.

كانت الغرفة خالية، جدرانها صامتة، والنوافذ مغلقة بإحكام، ومع ذلك، كان يشعر أن الهواء ثقيل، أن كل شهيق يدخل صدره كمن يبتلع صخرة غير مرئية. وضع يديه على ركبتيه كأنهما ميزانان مهشّمان، ميزانان فقدا القدرة على التوازن منذ زمن بعيد.

لم يكن هناك شيء على كتفيه، لا حقيبة، لا أيدٍ تمسك به، لا أعباء ملموسة، ومع ذلك أحسّ أن وزن العالم كله يضغط على صدره. كل صوت في داخله كان يئن، كل فكرة تتحول إلى حجر صغير يتراكم فوق الآخر، حتى صار داخله أشبه بكومة أنقاض.

أغمض عينيه. أراد أن يفتش عن مصدر الثقل. وحين دخل إلى الداخل أكثر، رأى أن لا يد خارجية هي التي تثقله، ولا قدر مرسوم هو الذي يطحنه. بل كان السؤال القديم، ذاك الذي ظل يحوم في داخله منذ سنوات، يعود إليه الآن كضربة مطرقة على جدار واهٍ:

متى أصبح وجودي عبئًا عليّ؟

تذكر طفولته، حين كان العالم أبسط: قطعة خبز تكفي، وركض صغير في الحقول يحرره من كل ثقل. لم يكن يعرف معنى كلمة “عبء” وقتها. كان يعتقد أن الوجود هو مجرد فعل تنفّس، مجرد لعبٍ طويل في انتظار أن يغفو تحت لحاف الأم. لكنه الآن، وقد كبر حتى تآكل ظهره من الجلوس والانحناء، بات يشعر أن كل نفس يدفع ثمنه. أن كل صباح يستيقظ فيه ليس بداية، بل حسابًا مؤجلًا.

فتح عينيه على الظلمة من جديد، وقال لنفسه:
— الثقل ليس من العالم… بل مني أنا. أنا من حملت السؤال كحجر في جيبي، حتى صار جيبًا من نار.

وقف ببطء. شعر أن ساقيه لا تحملانه كما ينبغي. اقترب من النافذة، فتحها، وسمح لليل أن يدخل. لم يختفِ الثقل، لكنه تحرّك قليلاً، كأنه أفسح مكانًا لنسمة هواء.

وفي تلك اللحظة، أدرك شيئًا لم يعرفه من قبل:
أن الوجود لن يتوقف عن كونه عبئًا، لكن يمكن أن نتعلّم كيف نحمله.
ليس بالهرب منه، ولا بكسره، بل بالنظر إليه كجزء مننا… ثقل لا يُرى، لكنه ما يجعلنا نعرف أننا ما زلنا هنا.

ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، متعبة، لكنها حقيقية.
لأول مرة منذ زمن بعيد، شعر أن السؤال لم يعد يطحنه… بل صار رفيقًا يجلس على كتفه، يذكّره أنه ما زال على قيد الحياة.