12:00 صباحًا / 29 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

رسالة إلى مثقفي العالم ، “صرخة كتب” ، بقلم : غدير حميدان الزبون

رسالة إلى مثقفي العالم ، “صرخة كتب” ، بقلم : غدير حميدان الزبون

أيها المثقفون في الشرق والغرب، يا حراس الكلمة، وأوصياء الذاكرة الإنسانية.
أما قبلُ، فأحييكم بسلامٍ من الله وأمنٍ وسكينة، سلامٌ يخرج من بين جراحٍ لم تندمل بعد، ومن قلوبٍ أضناها الحنين، لكنه سلامٌ يليق بكرامة الإنسان، وبحلم الأرض أنْ تظلّ خضراء نابضة.
أحييكم بما تبقى من أصواتنا المبحوحة، بما حملناه من ذاكرةٍ مثقلة بالرحيل، وبما ورثناه من أجدادٍ خطّوا أسماءهم على الصخر، لئلا تذروها الرياح.
أحييكم يا سادة الحروف، والألم يغصّصني بريقي، ويكأنّ حروفكم جمرة على لساني، ودم في وريدي.
وأمّا بعدُ، فأكتب إليكم لأنني سليلة أرضٍ تنزف، وشاهدة على ذاكرةٍ تتعرض للطمس، وصوت يحمل في جوفه صدى أجيالٍ تكسّرت أحلامها على صخور الغياب.


أكتبُ إليكم لأنّ الكلمة ما زالت آخر أسلحتنا، ولأنّ الصمت في حضرة الجريمة جريمة أُخرى.
أكتبُ إليكم عن غزة العزّة، عن مدينة صارت كتبها رمادًا، ومكتباتها ركامًا، وأحلام طلابها شظايا متناثرة.
أكتب عن أرضٍ أُطفئت فيها قناديل المعرفة تحت القصف، وسقطت رفوف الحكمة فيها كما يسقط الشهداء، واحترق الحبر في دواته كما يحترق الجسد.


ألا تهزّكم صور المكتبات وهي تشتعل؟
ألا تصدمكم أرفف المعرفة وهي تنهار؟
أين أصواتكم وأنتم ترون الكتب تُباد أمام العالم؟
كيف يصمد قلمكم، وأنتم تشهدون حربًا معلنة على العقل والروح والذاكرة؟
أيها المثقفون، أتعرفون عن أي شعب أتحدث؟
أتحدثُ عن شعبٍ يحبُ الحياة ما استطاع إليها سبيلا، شعبٌ يستحق الحياة، رغم كل ما لاقاه من خرابٍ وظلم.
لقد رأينا أطفالًا يفتشون بين الأنقاض عن دفاترهم، وطلبة يجمعون قصاصات أوراقٍ محروقة، وكتّابًا يقفون عاجزين أمام رمادٍ يبتلع تاريخهم.
لقد رأينا الحروف تُسحق، والذاكرة تُمحى، والأحلام تتبدّد في دخانٍ كثيف، كأنّ الأرض نفسها صارت مسرحًا لصرخةٍ بلا صوت، ورغم كل هذا الدمار.
رأينا العلم يرفع رأسه من بين الركام: كتب مهترئة، صفحات ممزقة، أوراق متربة، لكنها لم تمت.
رأينا الباحثين يجمعون مخطوطاتٍ قديمة، وأساتذة يقرأون على حدة الحروف المحترقة لتعيد الحياة إلى المعاني، وطلابًا يكتبون على جدران الأنقاض ما لم يعد بإمكانهم حمله في دفاترهم.
لقد رأينا المعرفة تقاوم الدمار مثل جذر شجرة عنيدة يخرج من صخرة صلبة.


رأيناها شعلة صغيرة ترفض أن تنطفئ في ظلام الحرب.
ففي كل كتابٍ أعيد جمعه، وفي كل صفحةٍ أُعيدت قراءتها، وفي كل حرفٍ وُضع على الجدار ليبقى شاهدًا، تولد صرخة جديدة: صرخة علمٍ لا يُقهر، صرخة معرفةٍ لا تموت، صرخة كتب تبقى لتذكّرنا أنّ هذا الشعب حي، وأنّ الكلمة، مهما حاولوا أن يقتلوها، باقية لتضيء دروب الغد.
أليس هذا الوجع وجعكم؟
أليس سقوط المكتبة سقوطًا لكم جميعًا؟


إنّ قصف المكتبات ليس حادثًا عرضيًا، بل قرار بمحو الذاكرة.
لم يُرِد المعتدون أن يقتلوا الأجساد فقط، بل أن يقتلوا الفكرة.
لم يكتفوا بإسكات الحياة، بل سعوا إلى إطفاء العقل.
فهل يليق بكم أن تصمتوا وأنتم شهود على جريمة بهذا العمق؟
أيها المثقفون، لا تقولوا: لسنا مسؤولين، ولا تتذرعوا بالحياد فتنسحبوا خلف جدران الصمت.
أنتم مسؤولون أمام الكلمة، أمام الثقافة، أمام التاريخ.
إنّ خذلانكم اليوم سيُكتب غدًا خيانة للحقيقة، وإنّ سكوتكم سيظلّ علامة عار على جبين الثقافة العالمية.
قفوا، ولا تسمحوا بمرور الجريمة كأنها خبر عابر.
اكتبوا، ولا تتركوا الصفحات بيضاء، واصرخوا، ولا تتركوا الحبر بلا صدى.
أيها المثقفون، إنّ الكتاب الذي احترق في غزة كان جسرًا بين الشعوب، والمكتبة التي انهارت كانت بيتًا للإنسانية كلها، لا للفلسطينيين وحدهم، وإذا سقطت اليوم الكتب شهيدة في غزة، فمن يضمن ألا تسقط غدا في مدائنكم؟
أتعجّبُ من هذا الصمت، وأتعجّبُ من هذا التردد.
كيف تتغنون بحرية الكلمة، وأنتم تسكتون أمام قتلها؟
كيف تتباهون بحماية التراث، وأنتم تتركون الذاكرة تُمحى أمام أعينكم؟


لا تتركوا غزة يتيمة في مواجهة النسيان، ولا تسمحوا بأنْ يصبح رماد الكتب غبارًا فوق وجوه العالم فتخذلوا المكتبات التي كانت ملاذًا للطلاب، ثم صارت شاهدًا على جريمة موصوفة.
أتظنّون أنّ غزة تستجديكم؟ إياكم أنْ تفكّروا بذلك، أو حتى أنْ تهمسوا به في سرائركم، فغزة لا تطلب عزاءً ولا شفقة.
غزة تناديكم بالعدالة والموقف، وتنتظر منكم أنْ تحموا ما تبقى من الكتب، وأنْ تعيدوا بناء ما سقط، وأنْ تجعلوا من أقلامكم أسوارًا للكلمة، ومن أصواتكم منابر للذاكرة.
أيها المثقفون، إنّ صمتكم جريمة، وحيادكم خيانة، وتخاذلكم وصمة لا تُمحى.
انهضوا الآن، وقاوموا بالنص، بالقصيدة، بالمقال، بالبيان، بالموقف.
اجعلوا من الثقافة جبهة في وجه التدمير، وأعلنوا أنّ الكلمة لا تُحرق، وأنّ غزة ستكتب من رمادها ميلادًا جديدًا للمعرفة.
أعلنوا أنّ الذاكرة لا تُطمس، وأنّ الكلمة باقية ما دام في الإنسان نبض.
قولوا للعالم أجمع إنّ غزة التي أرادوا لها أنْ تصمت ستكتب من رمادها ميلادًا جديدًا للمعرفة، وستبقى منارةً للحقيقة، ما بقي في الكون قلبٌ يخفق بالحرية.


وهكذا، أيها الأصدقاء، لا أملك في حضرة الخراب إلّا أنْ أطلق صرخةً تُكتب ولا تُمحى، صرخةً من حبرٍ لا يجفّ، ومن وجعٍ لا يلين.
صرخة كتب، لا لتكون مجرد حروفٍ على ورق، بل لتكون جدارًا يصدّ النسيان، ويدًا تمتدّ في العتمة لتضيء دروب الغد.
صرخة كتب، لتشهد أنّ الكلمة ما زالت قادرة على أنْ تُقاوم، وأنّ الحبر حين يمتزج بالدمع والدم، يصير عهدًا أبديًّا على البقاء.


فأعيدوا للمثقف حصادَ عمره، كي لا يبقى غريبًا بين كتبه التي تناثرت كأشلاء ذاكرة، وأعيدوا للطفولة المحروقة قصصَ ما قبل النوم، كي لا ينام الأطفال على صوت القصف بدلًا من حكايات الجدّة عن الغد المشرق.


نعم، أعيدوا للكتب حقَّها في أنْ تُقرأ، وللكلمة حقّها في أنْ تُقال، وللذاكرة حقّها في أنْ تبقى وصيّة الأجيال.
فما لم يُكتبْ ضاع، وما لم يُروَ اندثر، وما لم يُحفظْ تلاشى.
انهضوا، أيها الأصدقاء، ولنجعل الثقافة جبهة، والحبر عهدًا، والكلمة حصنًا أخيرًا في وجه المحو، حتى يشهد التاريخ أننا لم نصمت، ولم نساوم، ولم نغادر ساحة الكلمة.


أودّعكم بهذه الصرخة، علّها تجد صداها في قلوبكم، فتصبح كلّ كلمةٍ حارسًا للذاكرة، وكلّ كتابٍ شاهدًا على أنّنا كنّا هنا، وما زلنا نكتب لنحيا.

شاهد أيضاً

أسعار الذهب اليوم

أسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت أسعار الذهب اليوم الخميس 28 أغسطس كالتالي :عيار 22 71.600عيار 21 68.400