12:13 صباحًا / 27 يوليو، 2025
آخر الاخبار

حين تسقط الأقنعة، يقف الأصيل شامخًا فوق ركام الخذلان ، بقلم : محمود جودت محمود قبها

حين تسقط الأقنعة، يقف الأصيل شامخًا فوق ركام الخذلان ، بقلم : محمود جودت محمود قبها

في زمنٍ تهاوت فيه القيم تحت ركام المصالح، وتبدّدت الثوابت في زحمة الأهواء، لم يعُد الصدق شعارًا، ولا الأصالة مقياسًا؛ بل صار الناس يَسيرون بأقنعة مُتعددة، يُبدّلونها على مقاس الريح، لا على ثبات الجذور، ولكن… حين تسقط الأقنعة، يقف الأصيل شامخًا فوق ركام الخذلان، فالأصيل لا يسقط، وإن تكاثر الساقطون، فما كان ما هو إلا قيدٌ عابر على الجسد، لا على الموقف.


نحن أبناء برطعة؛ تلك القرية الفلسطينية المُحاصَرة داخل الجدار، قلبٌ نابض في جسدٍ يُحاول العدو خنقه يومًا بعد يوم، نعيش يوميًا تحت وطأة الاحتلال الجاثم، ونتقاسم وجع الهوية المسلوبة، ونُكابد ويلات التمييز، والحصار، ومرارة التجاهل.
في هذه الأرض، لا تَرَفَ لنا في اختيار المعركة، فالمعركة اختارتنا؛ ومع ذلك، ظلّ فينا من يحمل النور وسط هذا الظلام الكثيف، رجلٌ من أهلنا، من نسيج قريتنا، لم يكن يرفع الشعارات؛ بل يزرع الفعل الطيّب، ويحمل همّ الناس لا همّ نفسه، هو رجل أمن، لكنّه لم يعرف القسوة؛ بل كان وجهًا إنسانيًا نقيًّا في جهازٍ كثيرًا ما يُساء فهمه، ما خذل أحدًا، وما أعرض عن محتاج، وما تأخر عن أبناء قريته يومًا، لا في شدةٍ ولا في شجارٍ ولا في ضيق.


محمد صالح قبها “أبو صالح”؛ رجلٌ في زمنٍ قلَّت فيه الرجال، لجأ إليه كثيرون لِمُساعدتهم، لا لسلطته، بل لرجولته، ثم شاء القدر، أن تمتد يدُ الاحتلال الغاشم لتعتقله، في مشهدٍ مُتكرر يعرفه الداخل الفلسطيني جيدًا: لا تهمة واضحة، ولا ذنب سوى الثبات، والنقاء، والرفض الصامت لكل أشكال التهجين والظلم.


عندها، كأن شيئًا تبدّل؛ لم نعد نرى الاحتلال فحسب؛ بل رأينا ما هو أشدّ قسوة: خذلان القريب، فقد انقسم الناس، وما كانت قلوبهم واحدة أصلًا، منهم الشامتون وغيرهم الشاتمون، ومنهم من آثر الصمت الجبان، كأنّهم لم يشهدوا منه خيرًا يومًا ما، وكأنّهم ما طرقوا بابه ذات حاجة.


لكنّه لم يردّ، ولم ينهار، لأنه من طينةٍ صلبة لا تتكسر عند أول اصطدام،


هو الآن هناك، خلف القضبان، يُواجه السجّان بقامةٍ مرفوعة، وصمتٍ لا يُفسّره الضعف؛ بل الكبرياء، يعلم أن الزمن لا يُصفّي الحساب لحظة بلحظة، لكنّه لا يُغفل شيئًا، وأن المواقف لا تُقاس بالصوت المُرتفع، بل بالثبات تحت الضغوط، وبالهدوء حين تعوي الذئاب.


أبو صالح… وإن اجتمع عليه القيد والخذلان؛ فقد بقي أنقى مِمَّن حرّرتهم الخِسَّة، فنحن نعرف، وهو يعرف، أن خروجه قريب، ليس لأن الاحتلال قد يرقّ؛ بل لأن الشمس لا تُحبس، ولأن الحرّ لا يُقاس بعدد أيام سجنه؛ إنما بقدرته على ألا يُغيّره القيد… وسيخرج، وسيعود يمشي في شوارع برطعة الصامدة، لا حاقدًا؛ إنما أرفع قامة مِمَّن خذلوه، سيُسامح، ربما، لكنه لن ينسى، لأنّ الأصيل لا يحمل الحقد، لكنه لا يُفرّط في الكرامة، ولأنّ المواقف، في قريتنا الصغيرة، لا تُنسى، حتى وإن نُسيت الأسماء.


في برطعة، كما في كل بقعةٍ من فلسطين المُحتلة، من السهل أن ترتبك البوصلة، لكنّ بعض الرجال هم وحدهم البوصلة، حين تختلط الجهات، ورجالٌ كـ أبو صالح قبها… لا تُسقطهم محنة؛ بل تُعلّيهم، ولا تُسقطهم شماتة؛ بل تُعري غيرهم، ولا تُقيدهم قضبان، بل تُثبت للعالم أن الأصل لا يُعتقل.


ويبقى أبو صالح قبها شامخًا، لا تلين عزيمته أمام قيود الزمان، ولا تخضع روحه لقيود المكان، راسخًا كجذرٍ متينٍ في تربة أصيلة، لا تزعزعه ريح المحن، وصبره جبلٌ لا تنال قمةُ شموخه العواصف، وفرجه آتٍ لا محالة، كفجرٍ يلوح في أفق الحرية.

  • – محمود جودت محمود قبها – باحث في درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

شاهد أيضاً

الاحتلال يداهم عددا من المنازل في حي الهدف بمدينة جنين

الاحتلال يداهم عددا من المنازل في حي الهدف بمدينة جنين

شفا – داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، عددا من المنازل في حي الهدف بمدينة جنين. وذكرت …