لا تنسوا الفضل بينكم.. فبعض الديون لا تُسد إلا بالوفاء والاعتراف الجميل ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

لا تنسوا الفضل بينكم.. فبعض الديون لا تُسد إلا بالوفاء والاعتراف الجميل ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

في زحمة الحياة، تتراكم علينا ديون كثيرة، بعضها تُسد بالمال، وبعضها لا يطالها حساب ولا رقم في دفتر الحياة… ديون من نوعٍ مختلف، ديون القلوب والمواقف والمشاعر، تلك التي لا تُقاس بميزانٍ ولا تُكتب على ورق، لكنها تظل محفورة في الذاكرة، كالنقش على حجرٍ صلد لا تمحوه السنون.

كم من مرة كنتَ فيها على وشك الانهيار، وتعثّرت خطاك، وإذا بيدٍ تمتد إليك لترفعك؟ كم من لحظةٍ شعرتَ فيها أنك وحدك، وإذا بصوتٍ يأتيك ليقول: “أنا معك”… هؤلاء الذين كانوا معك في زمن التعب لا يقدّرون بثمن، وديونهم لا تُسدّ بمال ولا بكلمات عابرة، بل تُسدّ فقط بالعرفان، بالوفاء، بالاعتراف الصادق الذي لا يغيب عن القلب، حتى وإن غابت الوجوه.

لا تنسَ وأنت على قمة المجد من رافقوك في سفح الجبل… لا تنسَ أولئك الذين وثقوا بك حين شك الجميع، وساندوك عندما سقط الضوء من فوقك، وظلّوا يضيئون لك الطريق بأرواحهم، لا بمصابيحهم… فإن وصلتَ إلى قمتك دون أن تلتفت إليهم، فاعلم أنك لم تبلغ القمة حقاً، بل وصلتَ إلى قاعٍ من نوعٍ آخر… قاع النكران.

هناك من أعطاك من وقته، من طاقته، من دعمه، وربما من لقمة عيشه، فقط ليحملك من ضيقك إلى فسحة أمل… هؤلاء لا يُكافَأون بهدية، ولا يُردّ لهم الجميل بعبارة، بل يُردّ لهم بالبقاء في القلب، وبالدعاء في الغيب، وبأن تردّ العرفان لغيرهم في وقتٍ ما، فتكون مثلهم جبراً لقلوب الآخرين.

ديون المشاعر لا تسقط بالتقادم، بل تبقى كما هي، تنبت في الروح كلما مرّ طيفهم، تثمر عرفاناً وتُزهر محبة. كن وفيّاً… فالوفاء ليس ضعفاً، بل علوّ في الأخلاق، وسمو في المعنى. من لا يفي للقلوب التي احتوته، لا يعرف طعم الطمأنينة، لأنه ببساطة لم يذق معنى الإنسان.

كن على يقين بالله، أن كل شخص يمرّ في حياتك له رسالة… منهم من يكون كنزاً، يغنيك بأخلاقه ودعمه، يرفَعُك بصمته واحتوائه، يرشدك بنوره دون أن يتكلم كثيراً، ومنهم من يكون درساً، يعلمك ألا تثق بكل يدٍ ممدودة، وأن لا تُسلِم قلبك لكل كلمةٍ جميلة، وأن في الحياة أقنعة كثيرة، بعضها لا يسقط إلا حين تُبعثرَك الأيام.

ولكن حتى أولئك الذين كانوا دروساً، هم جزء من رحلتك، فلا تلعنهم، بل اشكرهم في سرك، لأنهم جعلوك أكثر فهماً، أكثر نضجاً، وأكثر قرباً من الله… فلا شيء يعلّمنا مثل الألم، ولا أحد يصقل أرواحنا مثل من خذلونا.

إن أجمل القلوب، تلك التي تحفظ المعروف، وتردّه بجميلٍ أطيب… تلك التي حين تغيب، تترك خلفها أثراً لا يُمحى، كرائحة المطر في الأرض العطشى… فكن مثل المطر، أينما حللتَ تركتَ أثراً، لا تطلب شيئاً، فقط تمضي وفي القلوب طيفُك الطيّب باقٍ لا يُنسى.

ولا تنسَوا الفضل بينكم… فإن الكلمة الطيبة لا تذهب هدراً، والموقف النبيل لا يُنسى، والدعاء في الخفاء يصل، وإن طال الغياب. الحياةُ لحظاتٌ نختبر فيها الإنسان فينا، فاختر أن تكون عوناً لا عبئاً، سنداً لا خذلاناً، نوراً لا ظلاً عابراً.

فإن كنت اليوم على قمة سلمك، فتذكّر كل يدٍ دفعتك درجة… ولا تكن ممن ينسون.