
الوصاية الرقمية: كيف حوّل ‘حراس الأخلاق’ النساء إلى ضحايا في عصر السوشيال ميديا؟” ، بقلم : أمال الحاجي
في عالمٍ يُفترض أن يكون التقدّم فيه مدعاةً للتحرر من قيود التخلّف، نجد أنفسنا أمام مفارقةٍ صارخة: وسائل التواصل الاجتماعي التي كان من المفترض أن تكون جسراً للحوار والتعارف، تحوّلت في المجتمعات العربية إلى ساحةٍ للتنابذ والتشهير، خاصةً عندما يتعلّق الأمر بجسد المرأة وحريتها. ففي الوقت الذي يُحاسب فيه الرجل العربي المرأة على لباسها أو سلوكها، نراه يُمارس نفس الفعل الذي يدّعي إنكاره، عبر تصويرها ونشر مقاطعها دون رضاها، وكأن جسدها ملكية عامة يُمكن التصرف بها تحت ذريعة “الدفاع عن الأخلاق”.
الانفصام الأخلاقي والخطاب المزوّق
ما يُثير السخرية المُرة هو ازدواجية المعايير التي يتبنّاها البعض. فالشخص الذي يرفع شعار “العفاف” هو نفسه الذي يُسارع إلى مشاركة مقاطع تُظهر النساء بلباس البحر أو الملابس الصيفية، مدّعياً أن هدفه “الإنكار” أو “التنبيه”. لكن الحقيقة أن هذا السلوك لا يختلف عن ثقافة “التخوين” التي انتشرت في المجتمعات العربية، حيث يُستخدم الخطاب الأخلاقي كغطاءٍ للهجوم على الآخر وتجريحه. فكيف يُمكن لإنكار المنكر أن يتحقق بانتهاك خصوصية الإنسان وكرامته؟ أليس هذا تناقضاً يفضح هشاشة الموقف الأخلاقي المُعلن؟
الجريمة الإلكترونية تحت غطاء “الرجولة”
لا يُمكن فصل هذه الظاهرة عن سياق أوسع من “العنف الرقمي” الذي تُمارسه بعض المجتمعات ضد المرأة. فتصوير المرأة دون علمها ونشر محتواها هو جريمة إلكترونية بكل المعايير القانونية والأخلاقية، حتى لو تلبّست بثوب الدين أو العادات. والأخطر أن هذا الفعل يُبرَّر أحياناً تحت مسمى “الرجولة”، وكأن الرجولة الحقيقية تكمن في التحكّم بجسد الآخرين بدل احترام حرياتهم. هنا تتحوّل “الرجولة” إلى أداة قمعية تكرّس هيمنة الذكر على الأنثى، بدل أن تكون قيمةً تعني الحماية والمسؤولية.
من العائلة إلى العالم الافتراضي: توسع دائرة الوصاية
هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لبنية اجتماعية قائمة على ثقافة “الوصاية”، حيث يُنظر إلى المرأة ككيانٍ يحتاج إلى رقابة دائمة. لكن الوسائل التكنولوجية أعطت هذه الوصاية بُعداً جديداً، فلم يعد الرقيب مجرد فرد في العائلة أو الحي، بل تحوّل إلى آلاف المستخدمين الذين يُمارسون دور “الشرطة الأخلاقية” عبر الشاشات. وهذا ما يُفسّر كيف أن بعض الرجال الذين يدّعون “الغيرة” على نساء بلدهم هم أنفسهم مَنْ يُعرّضهنّ للإذلال العالمي عبر منصات التواصل.
كسر الحلقة المفرغة: نحو ثقافة احترام الخصوصية
الحلّ لا يكمن في مناقشة “اللباس” أو “الحرية الفردية” فقط، بل في تفكيك الثقافة التي تسمح بانتهاك الخصوصيات تحت أي ذريعة. وهذا يتطلّب:
تطبيق القانون: تجريم تصوير الأشخاص دون إذنهم ومحاسبة الناشرين، لأن الحق في الخصوصية حقٌ دستوري.
إصلاح التعليم: بناء وعيٍ جديد يُفرّق بين “الأخلاق” و”الوصاية”، ويُعلّم أن احترام الآخر لا يعتمد على التحكّم بجسده.
توجيه الإعلام التوقف عن تضخيم قضايا التشهير، وتحويل النقاش إلى قضايا أعمق مثل العنف الاقتصادي أو السياسي ضد المرأة.
الأخلاق الحقيقية لا تحتاج إلى ضحايا
الأخلاق الحقيقية لا تُبنى على انتهاك حقوق الآخرين، ولا تُقاس بطول الثوب أو قصر الكمام. لو كان الهدف حقاً حماية المجتمع، لكان التركيز على مكافحة الفساد المالي أو التحرش الجنسي أولى من ملاحقة النساء في الشواطئ. لكنّ البعض يختار “الضحكة السهلة”: تحويل المرأة إلى كبش فداء لأزمات المجتمع، بينما يتهرّب من مواجهة الفساد الحقيقي. وهنا يكمن جوهر المشكلة: ثقافة تُحوّل الأخلاق إلى سلاحٍ للقمع، بدل أن تكون جسراً للعدل والمساواة.
أمال الحاجي