
شفا – مع اختتام فعاليات الدورة الـ31 لمعرض بكين الدولي للكتاب مؤخرا بمشاركة أكثر من 1700 عارض من 80 دولة ومنطقة، تجلت بوضوح أهمية التفاعل الثقافي الصيني العربي من خلال حركة النشر والترجمة.
وقد أجمع المستشرقون والمترجمون على أن هذا الحدث الثقافي البارز، منذ انطلاقه لأول مرة عام 1986، أصبح من أبرز المنصات الكبرى التي تسهم في تعميق التبادل الحضاري بين الصين والعالم العربي، ودفع قطاع النشر وصناعة الكتب في مجالات الأدب والثقافة إلى آفاق أرحب.
مشاركة عربية نشطة ومتميزة
مقارنة بالدورات السابقة، شهدت هذه الدورة من معرض بكين الدولي للكتاب مشاركة تسع دول لأول مرة، من بينها سلطنة عُمان، كما توسعت مساحة المعرض لتبلغ 60 ألف متر مربع، في دلالة واضحة على النمو المتواصل لهذا الحدث الثقافي الضخم.
وفي إطار سعيها إلى تقديم تراثها الثقافي الوطني إلى الشعب الصيني، وتعزيز الروابط مع دور النشر والأوساط الثقافية الصينية واستكشاف آفاق التعاون المشترك، جاءت المشاركة المميّزة لدولة الإمارات العربية المتحدة عبر جناح وطني يعكس غنى المشهد الثقافي الإماراتي وتنوعه، وهو جناح “البيت الإماراتي” الذي احتضنته أروقة معرض بكين الدولي للكتاب. وقد نظم الجناح سلسلة من الفعاليات المتنوعة، شملت ندوات ولقاءات وزيارات، بالإضافة إلى توقيع عدد من اتفاقيات التعاون التي تتوافق مع رؤية الدولة في الانفتاح على الإنتاج الثقافي الخارجي.
وخلال افتتاح جناح “البيت الإماراتي”، أشار حسين بن إبراهيم الحمادي، سفير دولة الإمارات العربية المتحدة لدى الصين، إلى ثقة بلاده بأن الثقافة تمثل جسرا للتواصل والتفاهم، وأن الكتاب يُعد أداة فعالة لنقل القيم والمعارف. كما عبّر عن تطلع الإمارات، من خلال مشاركتها في المعرض، إلى تعزيز العلاقات الثقافية مع الصين وفتح آفاق جديدة للتعاون في مجالات النشر والتعليم والفنون.
ونوه أيضا إلى حرص بلاده على اغتنام هذه الفرصة لعرض الثقافة الإماراتية أمام الشعب الصيني الصديق، معبرا عن توقعه بأن يسهم هذا الحدث المهم في تعزيز الروابط الثقافية بين الشعبين الصديقين.
وقد تميز تصميم جناح “البيت الإماراتي” في معرض بكين الدولي للكتاب بخصائص فريدة، أتاحت للزائرين الاطلاع على مجموعة مختارة من المنشورات والكتب الصادرة عن دور النشر والمؤسسات الثقافية الإماراتية. كما شملت الفعاليات الثقافية المصاحبة للجناح تنظيم 16 ندوة ثقافية على مدار أيام المعرض، إلى جانب سلسلة من اللوحات الفنية وأعمال الخط العربي، فضلا عن عقد اجتماعات مشتركة تناولت سبل تعزيز التعاون والتبادل الثقافيين بين المؤسسات الإماراتية ونظيراتها الصينية.
وعلاوة على ذلك، تضمن جناح “البيت الإماراتي” منطقة مخصصة لأرشيف العلاقات الصينية الإماراتية، استعرضت الأحداث الرئيسية والمحطات البارزة في تاريخ العلاقات بين البلدين. كما أقيمت فعاليات لترويج الكتب، شهدت حضور نخبة من الكتاب الإماراتيين البارزين.
أما جناح المملكة العربية السعودية، فقد لفت أنظار الزوار بما قدمه من محتوى ثقافي غني ومتنوع. وقد تولت هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية قيادة وفد المملكة في المعرض، باعتباره إحدى الفعاليات الجوهرية ضمن “العام الثقافي الصيني السعودي 2025”. وسلطت المملكة من خلال هذه المشاركة الضوء على جانب نابض بالحيوية من “رؤية السعودية 2030”.
وقدمت السعودية باقة متميزة من الأعمال التي تجسد إنجازاتها في ميادين الأدب والنشر والترجمة وصناعة الإبداع الثقافي، وهو ما جذب العديد من المتخصصين والقراء للتفاعل. وتجسد هذه المشاركة الجهود التي تبذلها السعودية في تطوير صناعة الكتاب، وتعزيز الحوار الثقافي الدولي، ضمن توجّه يعكس التزام المملكة بإبراز هويتها الثقافية، والانفتاح على التجارب العالمية، وتفعيل أدوات التواصل الحضاري.
نتائج ثقافية مثمرة وواعدة
على هامش معرض بكين الدولي للكتاب، تم توقيع اتفاقية بشأن حقوق الطبع بين دار الموسوعة الصينية العامة للنشر والطبع ودار المستقبل الرقمي للنشر والتوزيع اللبنانية، وذلك بهدف تعزيز ترويج الموسوعة الصينية العامة في الدول الناطقة باللغة العربية.
وفي هذا السياق، صرح رئيس دار الموسوعة الصينية العامة للنشر والطبع ليو تسوه تشن، أن عددا من الكتب الموسوعية المتميزة، من بينها ((الموسوعة الصينية العامة)) و((مجموعة كتب الثقافة الصينية)) و((عملية إصلاح الاقتصاد الصيني)) و((حكمة الصين)) قد تُرجمت إلى اللغة العربية على يد دار المستقبل الرقمي للنشر والتوزيع اللبنانية، ما مكّن هذه الكتب من الوصول إلى القراء في 22 دولة عربية، بالإضافة إلى دول أخرى غير عربية تضم جاليات ناطقة بالعربية.
وبحسب بيانات الرصد للفترة من مايو إلى يونيو من هذا العام، تجاوز عدد الزيارات لهذه الكتب أكثر من 2.68 مليون زيارة، بينما بلغ عدد الأشخاص الذين اطلعوا عليها أكثر من 5.66 مليون شخص. وقد تصدرت مصطلحات مثل الطب الصيني، والتاريخ، والابتكار العلمي، والفلسفة الصينية قائمة الكلمات الأكثر بحثا. أما الفئة العمرية الأكثر تفاعلا، فكانت بين 35 و44 عاما. وسجل المستخدمون من المملكة العربية السعودية والجزائر ومصر وتونس أعلى معدلات التفاعل.
وفي إطار الفعاليات المصاحبة للمعرض، نظم اتحاد بكين لدوائر الأدب والفنون فعالية جمعت عددا مع الباحثين المتخصصين في الدراسات الصينية والمترجمين المتميزين من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك من الدول العربية، للتوقيع على اتفاقية الدورة السادسة من مشروع ترجمة الأعمال الأدبية الممتازة. وبموجب هذه الاتفاقية، ستُترجم الرواية الخيالية الطويلة الموجهة للأطفال، التي تحمل عنوان ((العودة إلى العصر الطباشيري))، إلى اللغة العربية قريبا.
كما كشفت الإحصاءات الرسمية أنه تم التوصل إلى 1955 اتفاقية ومذكرة تفاهم لتصدير حقوق الطبع، بالإضافة إلى 753 اتفاقية لاستيرادها، خلال فترة المعرض. وقد برز تصدير الكتب المتمحورة حول المواضيع الكبرى كإحدى سمات المعرض اللافتة، حيث جرى توقيع اتفاقيات لتصدير حقوق الطبع بعدة لغات، من بينها العربية والإنجليزية واليابانية لكتاب ((أبعاد النهضة الريفية))، إلى جانب تصدير حقوق الطبع باللغة العربية لكتاب ((الحلول الصينية: الحوكمة العالمية والتعاون الدولي)).
أهمية الترجمة ودورها الحيوي
قال يحيى محمد مختار، المدرس في قسم اللغة الصينية بكلية الآداب في جامعة السويس المصرية، خلال مشاركته في ندوة “أدباء العالم يتحدثون عن الصين” التي عُقدت على هامش معرض بكين الدولي للكتاب، إن الترجمة تمثل عملا إبداعيا متجددا، وأن الترجمة الأدبية تعد أعلى مستويات الترجمة. وأشار إلى ندرة المترجمين العرب القادرين على ترجمة الأدب الصيني إلى اللغة العربية، مشددا في الوقت نفسه على أن الذكاء الاصطناعي والنماذج اللغوية الكبرى لا يمكنها التعامل بشكل مثالي مع خصوصيات ترجمة الأدب الصيني.
ولذلك، أجمع الحضور على أهمية الترجمة المتقنة في الترويج للأعمال الأدبية الرفيعة.
يركز يحيى في ترجماته على الكتب التي تتناول الموضوعات الرئيسية الصينية والأدب الصيني المعاصر. وقد تولى ترجمة عدد من الأعمال، من بينها الرواية الشعبية الصينية ((رحلة إلى الشمال)). وخلال فعاليات المعرض، حصل يحيى على جائزة الإسهام المتميز في الكتاب الصيني في دورتها الـ18 تقديرا لعطائه في هذا المجال.
ومن جانبها، صرحت سماح عبد القادر، الباحثة التونسية في مجال الدراسات الصينية التي شاركت في معرض بكين الدولي للكتاب وفعاليات أخرى، لصحيفة ((جلوبال تايمز)) الصينية بأن الأدب الصيني يشكل نافذة هامة للأجانب لفهم المجتمع الصيني وحياة أفراده، بوصفه مرآة تعكس ملامح هذا المجتمع.
وبصفتها معلمة اللغة الصينية في جامعة قرطاج ومسؤولة التعاون الدولي في دار معارف شرقية للنشر والتوزيع بتونس، قامت سماح بترجمة عدد كبير من الكتب الصينية إلى اللغة العربية، من بينها ((الأهمية العالمية للتنمية الاقتصادية الصينية)) و((رحلة البحار الصيني تشنغ خه إلى أفريقيا)).
وقالت “أنا شخصيا مولعة بالأدب الصيني المعاصر، مثل مجموعة المقالات التي تحمل عنوان ((حقول عباد الشمس البعيدة)) للكاتبة لي جيوان. وقد كان للنسخة العربية من هذا الكتاب تأثير كبير في الدول العربية، إذ قدمت للقراء صورة حقيقية عن حياة الشعب الصيني في الوقت الحاضر”.
وقد توجت سماح أيضا بجائزة الإسهام المتميز في الكتاب الصيني على هامش المعرض. وأعربت عن سعادتها بهذا الإنجاز قائلة إن “الحصول على هذه الجائزة منحني دفعة قوية. وسأبذل قصاري جهدي لنقل الأدب الصيني إلى العالم من خلال مسارين: أولهما، تعزيز تعليم اللغة الصينية في تونس، وتشجيع المزيد من الشباب التونسي على تعلم اللغة الصينية وفهم الصين. وثانيهما، مواصلة ترجمة المزيد من الكتب الصينية ونشرها باللغة العربية، وسرد قصة الصين من خلال الكتاب”.