
مادلين ، أنثى البحر التي قهرت العاصفة ، بقلم : محمود جودت محمود قبها
في زمن تتناسل فيه المآسي كما تتناسل الأمواج في بحرٍ هائج وُلدت حكاية مادلين كلّاب كزهرة بحر تنبت بين الصخور الحادّة تقاوم الموج والملح والعواصف وتُزهر رغم القيود والحصار والخذلان.
لعلّ معظمنا سمع باسم السفينة “مادلين” تلك السفينة الجريئة التي أبحرت من شواطئ صقلية تخترق زرقة البحر إلى غزة المحاصَرة تحمل معها صرخة تتحدى الحصار وصدى ضمائر ما تزال تنبض بالحقّ رغم خرس العالم لكن قليلون فقط تساءلوا: لماذا “مادلين”؟ لماذا هذا الاسم بالتحديد يرفرف على شراع التحدّي؟
سُمّيت السفينة تيمناً بفتاة فلسطينية من غزة مادلين كُلّاب التي لم تكن مجرد فتاة تمسك شباك الصيد بل كانت تمسك بخيوط الحياة ذاتها في يد وبالكرامة في اليد الأخرى لم تكن تصيد الأسماك فقط بل كانت تصطاد النجاة لأسرتها من بئر الفقر العميق وتصطاد الحقّ من بين أنياب الظلم.
بدأت الحكاية حين كانت طفلة بالكاد تتعلم الحروف لكنها كانت تحفظ أسرار البحر أكثر مما تحفظ دروس المدرسة في السادسة من عمرها كانت تخرج مع والدها صيّاد البحر الذي أورثها عشق الأمواج وعلّمها أن البحر ليس مجرّد ماء بل هو تاريخ وذاكرة وهوية في الثالثة عشرة أصيب والدها بالشلل ولم يكن أمامها إلا أن ترتدي ثوب الرجال في بحرٍ لا يعرف الرحمة حملت القارب كأنها تحمل وطناً بأكمله ومضت.
غزة، تلك الجرح المفتوح منذ عقود، لا تعطي أبناءها إلا الألم مقروناً بالأمل. الحصار المستمر منذ 2007 جعل من بحر غزة بركة صغيرة، لا يُسمح للصيادين فيها أن يبتعدوا أكثر من 3 إلى 6 أميال، وكأن الاحتلال يريد حتى للبحر أن يتآمر على أهل القطاع ومع كل شباك ترميه مادلين كانت ترمي وجعها قبل أن تسحب رزقها. ومع كل سمكة كانت تستخرجها من بطن البحر كانت تنتشل معها جرعة من الكرامة وسط بحر من الانكسارات.
لكن التحدي الأكبر لم يكن البحر بل اليابسة مجتمع محافظ، يرى في الفتاة التي تمتهن الصيد خروجاً عن الأعراف مادلين لم تصارع فقط الموج، بل صراعت أيضاً النظرات الخانقة والكلمات الجارحة واتهامات المجتمع بأنها أنثى غريبة الأطوار لكنها كانت أنثى من نوع آخر أنثى لا تُقاس بأنوثتها الظاهرة بل بشموخ روحها وعلوّ قامتِها في وجه العاصفة.
لم تتوقف الضربات عند حدود المرض والفقر والمجتمع ففي عام 2016 جاءت يد الاحتلال فانتزعت قارب والدها كما ينتزع المحتلّ وطناً من بين أضلاع شعبه صودر القارب والمعدات لكن الروح بقيت صلبة كصخر غزة استأجرت مادلين محركاً قديما لقارب سياحي وواصلت الإبحار كمن يواصل الحياة رغم قلبٍ مكسور كانت تصطاد يوميًا ما يقارب ثلاثة كيلوغرامات من الأسماك بالكاد تكفي لسد رمق أسرتها لكن عزيمتها كانت تصطاد البحر ذاته لو أرادت.
ولأن البطولات الحقيقية لا تكتمل إلا حين تمتد لغيرها لم تكتفِ مادلين بأن تكون صيّادة لنفسها بل أرادت أن تصنع قوارب أخرى في بحر النساء أسّست نادياً نسائياً للصيد نظّمت ورشًا لتعليم الفتيات فنّ صناعة الشباك كأنها كانت تنسج لهنّ مستقبلاً بخيوط من ذهب رغم أن البحر كان لا يقدم لهنّ إلا ماءً مالحاً.
وهكذا أصبحت مادلين الفتاة الصغيرة التي تحدّت الموج والمجتمع والحصار رمزاً لأُنثى غزاوية لا تشبه إلا ذاتها رمزاً لامرأة من صخر البحر وملح الأرض ودماء الكرامة تقف الآن شامخة في ذاكرة غزة، كما تقف السفينة “مادلين” الآن تشقُّ العباب حاملة اسمها.
وفي يونيو 2025 حين قرر تحالف أسطول الحرية إطلاق اسم “مادلين” على إحدى سفنه لم يكن الأمر مجرد تكريم لفتاة بل إعلاناً أن فلسطين لا تنجب إلا النجمات اللاتي لا تنطفئ في عتمة العالم وأن غزة لا تعرف الاستسلام بل تصنع من الحصار سفنًا ومن الألم أشرعة.
وبعد اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023، ازداد الجرح عمقاً فقدت مادلين والدها وفقدت معها آخر ما تبقى من دفء العائلة لكن روحها لم تفقد بوصلة الطريق ظلت قصتها ناراً مشتعلة في ظلام الصمت العالمي شعلة تضيء قلوب من بقيت ضمائرهم حيّة.
وكم كان المشهد مدهشاً حين اجتمعت أسماء من أربع جهات الأرض على ظهر السفينة “مادلين”. أسماء لا يجمعها وطن ولا دين ولا لغة بل جمعها خيط الإنسانية الرفيع الذي يُنقَذ به البشر من الغرق الأخلاقي قبل الغرق في البحار غريتا ثونبرغ تلك السويدية التي جعلت من البيئة قضيّة عالمية جاءت اليوم تقف على السفينة كأنها تقول للعالم هنا تبدأ الإنسانية لا هناك معها كان ليام كانينغهام الممثل الأيرلندي الذي لطالما واجه الشرّ في الشاشة وها هو اليوم يواجهه في الحقيقة كانت ريما حسن الفلسطينية الفرنسية وكانت أصوات من كل اللغات عربية فرنسية ألمانية كردية تركية إسبانية هولندية… أسماء اجتمعت رغم اختلاف المنازل واللغات لأن الضمير لا يحتاج ترجمة.
وما أجمل أن يُرفع اسم “مادلين” على هذه السفينة في بحرٍ امتلأ بجثث الأطفال وصرخات الأمهات وغبار الموت كأن السفينة تقول: “لسنا وحدنا في هذا الليل الطويل”.
إنّ قصة مادلين ليست قصة فتاة تصيد السمك في بحر صغير بل قصة وطن بأكمله عالق بين ضفاف الحلم وحدود الاحتلال إنها حكاية أمّة تبحث عن ضميرها الغائب وسط ضجيج العالم الأجوف.
علّموا أبناءكم قصة مادلين لا ليحفظوها كدرس في كتاب بل ليكتبوها في ضمائرهم كما يُكتب الضوء في عيون العاشقين علّموهم أن البحر لا يُخيف من تعلم السباحة في موج القهر وأن الكرامة أثمن من المال وأن الإنسانية ليست شعاراً يُرفع في المؤتمرات بل فعلاً يُمارَس وسط النار.
ما يحدث في غزة ليس مأساةً فقط بل مرآة تعكس وجوهنا جميعاً والعار الحقيقي ليس في ما يحدث هناك بل في صمت القريب قبل البعيد فهل أصبحنا نستهلك المآسي كما نستهلك نشرات الأخبار… بلا فعل؟ بلا أثر؟ بلا وجع؟
أما مادلين… فهي هناك في البحر وفي الذاكرة وفي السماء تعلمنا أن الطفولة قد تتحول إلى بطولة وأن المرأة قد تتحول إلى أمة وأن سفينة صغيرة قد تحمل على متنها وجع شعب وأمل مستقبل.
مادلين… ليست اسماً على سفينة فقط بل عنواناً لروح لا تعرف الانكسار.