
“مرويات الصمت والهوية.. تأملات في الحرية المؤجلة” ، رواية ابن عبد الواحد ، للكاتب ممدوح عبد الستار ، بقلم : جوان سلو
صدرت عن دار ميزوبوتاميا للنشر في القامشلي. سوريا، رواية للكاتب ممدوح عبد الستار بعنوان ابن عبد الواحد. جاءت في 140 صفحة من القطع المتوسط، إذ تُقدّم نصاً سردياً مشبعاً بالدلالات المتعددة والمفاتيح الرمزية التي تفتح أمام القارئ مسارات تأويلية متشعبة. حيث تبني الرواية أفكارها على مجموعة من نقاط الارتكاز التي تعمل كمفجّرات دلالية، كل منها يفتح أفقاً جديداً للرؤية، ويعيد تشكيل العلاقة بين النص والقارئ، بين الحكاية وتأويلها.
يقدّم الكاتب نصاً سردياً يتأرجح بين الجذر والفرع، بين الأب والابن، بين سلطة الموروث وشغف التحرر. إنها رواية عن الأمانة، لا بوصفها وديعة مادية، بل كحكاية مؤجلة، تنتظر من يملك شجاعة التدوين. في هذا العمل، تتقاطع جدلية الإرث والحرية مع أسئلة الهوية والانتماء، حيث لا يسعى الابن إلى محو الأب، بل إلى فهمه، والكتابة من خلاله لا ضده. ابن عبد الواحد ليست فقط رواية عن صبحي، بل عن كل من يحاول أن يكتب نفسه دون أن يمحو سطر الأب، عن كل من يفتش في أوراق الماضي ليعيد ترتيب الحاضر. إنها رواية الصمت الذي يربط، والحكايات التي تُروى وتُخفى، والحرية التي لا تتحقق إلا حين نواجه ذواتنا وموروثنا بشجاعة. في مرآة هذا السرد، تتجلى صورة مجتمع لا يتغير بسهولة، لكنه يحمل في داخله بذور التحول، إن امتلكنا الجرأة على الحفر في طبقاته العميقة.
هذه رواية لم تنحُ إلى هذا، ولا ذاك، وهي إذ تتناول فترة زمنية دقيقة في عمر المجتمع المصري؛ حيث تدور أحداثها ما بين قبيل ثورة يوليو 1952 وحتى نهاية حكم عبد الناصر، لا تنحت رمزاً تلمح به دون تصريح، ولا ترسم خطوطاً تقود القارئ قيادة الأعمى إلى غاية قصدها قصداً، بل تضرب في جذور المجتمع المصري في فترة دقيقة من عمره ضرباً يكشف عن طبيعة التركيبة الاجتماعية بتناقضاتها وقدرتها على مزج الغرائبي والخرافي بالواقعي، واستحضار الماضي بكل حمولاته في أصعب مراحل التحول التي تتعرض لها.
الرواية تلقي الضوء على العلاقة الغامضة بين الناس البسطاء والمؤسسة العسكرية، وكيف أن تلك المؤسسة تمثل قيمة كبرى في نفوسهم، للدرجة التي يعتقدون معها في قيم مثل الشرف والرجولة والوطنية.. الخ من خلال تلك المؤسسة. لكن الكاتب يمزج هذا كله بأحلام الإنسان المصري البسيطة التي قد لا ينظر إليها الله (على حد تعبير البطل/ صبحي في لحظة يأس).
يمكننا تصنيف الرواية ضمن الرواية الواقعية الاجتماعية؛ إذ تتخذ من شريحة اجتماعية محددة موضوعاً لها لتبرز من خلالها مجموعة من الرؤى السياسية والاجتماعية التي من شأنها تلقي الضوء على التغيير الذي أحدثته ثورة يوليو في المجتمع المصري، وإلى أي مدى أثرت في بنيته وخلخلت ثوابته؛ خاصة فيما يتعلق بإعادة العلاقات بين طبقات المجتمع ببعضها البعض.
الرواية باختصار تؤرخ لسيرة «صبحي عبد الواحد» صديق الراوي، الذي عهد إليه بالاحتفاظ بأوراقه الشخصية أمانة وهو على فراش الموت، ليكن ذلك إعلانا ضمنياً من «صبحي/ بطل الرواية» عن رغبته القوية في كتابة سيرته. فقط، نظر للراوي نظرة أخيرة بينما يده تقبض على كفه في قوة حريصة على توصيل المعنى.. وعناية اختيار صبحي للراوي لا تخلو من دلالة تحيل إلى مَن يكون المخوَّل له كتابة تاريخ الناس.. مَن المهموم بقضاياهم وحياتهم.. ليخفت دور الراوي عند هذا الحد، بل يتلاشى عن الأحداث تماما، يخلع عنه رداء المعرفة ليظل مجرد سارد لحياة صبحي يتلبس شخصيته على مهل، وكأن ضمير الغائب (هو) يحل محل ضمير المتكلم (أنا) فلا نستطيع الجزم أو الفصل بين شخصية الراوي/ السارد وبطله/ صبحي عبد الواحد.
تتوسل الرواية بالموروث الثقافي والاجتماعي المتجذر، ذلك الذي يصعب تفكيكه أو إعادة تشكيله بشكل نهائي، لتطرح من خلاله أسئلة وجودية وفكرية حول الهوية، والانتماء، والحرية. العلاقة بين صبحي ووالده عبد الواحد تمثل جوهر هذه الأسئلة، إذ تتجلى كجدلية أزلية بين القديم والجديد، بين الثابت والمتحول، لكنها لا تُقدَّم هنا كصراع صفري، بل كعلاقة تشابك وتداخل، حيث لا يمكن فصل الجذر عن الفرع، ولا الروح عن الجسد، دون أن يكون في ذلك موت أو فناء.
صبحي، بطل الرواية، لا يسعى إلى القطيعة مع الأب، بل إلى فهمه، إلى التحرر من سلطته دون إنكار جذوره. إن شغفه بالحرية لا يعني التمرد الأعمى، بل هو بحث حثيث عن معنى حقيقي للحرية، حرية لا تنفصل عن الذات ولا عن التاريخ، بل تحاول أن تعيد صياغتهما معاً. الأب، عبد الواحد، ليس مجرد رمز للسلطة الأبوية، بل هو حامل لموروث شعبي يتكئ على الخرافة والدين الشعبي، مما يجعل التحرر منه معركة مع الذاكرة الجمعية بقدر ما هي معركة مع الذات.
الرواية تحتوي على مجموعة من نقاط ارتكاز، كل منها يتمثل مفجرا لعدة دلالات تأخذنا في مسارات مختلفة لتتعدد بناء عليها زوايا الرؤية المفسرة والمحاولة القبض على منظور التأويل، وهي في سبيلها لذلك تتوسل بالموروث المتجذر في المجتمع الذي يصعب حلحلته أو صياغته صياغة نهائية. إن علاقة صبحي بوالده عبد الواحد تمثل جدلية قديمة – حديثة بين الأب والابن، القديم والحديث، الثابت والمتحول.. الخ. غير أن تلك العلاقة، هنا تحديداً، ليست علاقة إزاحة وحلول، أو انتصارا لأحد الضدين، بل هناك وشائج قوية تربط الحدين بعضهما ببعض. وفي الواقع، لا يرغب طرف في إزاحة الآخر، أو التخلص منه. إن علاقة الابن (صبحي) بالأب (عبد الواحد) تدور في صمت، لكنها لا تتخلى أبدا عن فكرة الجذر والفرع، الروح والجسد، لا يمكن الفصل بينهما، ففي الفصل حينئذٍ موت وفناء.
وفي إطار هذه العلاقة يمكننا قراءة شغف البطل بالحرية والبحث عنها ومحاولة الوصول لمعنى حقيقي لكلمة «حرية»؛ الفكاك من قبضة الأب المحمل بموروث يتكئ اتكاء كبيرا على الخرافة والدين (الشعبي) في آنٍ واحد، الرغبة في الانضمام إلى الجيش ومحاولة الوصول إلى اليمن للاشتراك في الحرب، على الرغم من أنه لا يدري لماذا يحارب ومن العدو الذي يحاربه، غير أن هذه الرغبة ارتبطت ببعد اقتصادي حيث يتحصل على راتب مجزٍ إلى حد ما، مثلما يرى الجنود العائدين من اليمن، فالجندية شرف ومال في الوقت نفسه، على الرغم مما حُمِّل هذا الغرض بالبحث عن الحرية والكرامة.
في هذا السياق، تتحول الرواية إلى تأمل عميق في معنى الإرث، وفي إمكانية تجاوزه دون إنكاره، وفي جدلية الاستمرار والانفصال. إنها رواية عن الصمت الذي يربط، عن الحكايات التي تُروى وتُخفى، عن الأب الذي يسكن الابن، والابن الذي يحاول أن يكتب نفسه دون أن يمحو سطر الأب.
الرواية فصل من تاريخ إحدى قرى محافظة الغربية، قرية «الدلجمون»، حيث تتجسد الوطن في مرحلة دقيقة من عمره، وتتناول شريحة اجتماعية تتماثل في شتى أرجائه، فحال الدلجمون لا يختلف كثيراً عن بقية القرى في ربوع مصر كلها؛ من حيث البنية الاجتماعية والتراتب الطبقي والموروث الثقافي.. يرصد الراوي التحولات التي تعرضت لها هذه الشريحة بمهارة فائقة؛ يلمِّح ولا يصرح، يرمز من دون إشارة، ويترك للقارئ مساحة للتأويل واستنطاق ما بين السطور.. فقط، يبقى متمسكا بالخطوط الرئيسية في الرواية واعياً بحركتها وتطورها الطبيعي، مدركاً الامتداد الزمني بعد مرحلة عبد الناصر، وتاركاً مساحة لسؤال ما بعد تلك المرحلة في نهاية مفتوحة صنعها بذكاء راوٍ خبير.
يختتم الكاتب روايته:
لملمت أوراق “صبحي” على عجل، والأسئلة تعشش في رأسي (اذا خصني وحدي دون غيري بهذه الأوراق ؟ ماذا أفعل بهذه الأوراق الآن؟ ولماذا أطلق عليها كلمة أمانة ؟ المهم في الأمر؛ بحثت عن باقي الأوراق التي تخص حياته الباقية، لكني للأسف لم أعثر علي أي شيء يُفيد، وعقدت العزم على تدوين هذه الأوراق في رواية. وللأمانة؛ لم أفعل غير تحسين بعض الصور، وتعديل التواريخ المهمة، وحذف ما لا يليق، وأدركت أن لكل شخص منا حكاية. فقط ينقصنا الشجاعة.