12:58 صباحًا / 7 يونيو، 2025
آخر الاخبار

الكذب في الواقع الفلسطيني ، بين الدعايات الانتخابية والواقع المرير ، بقلم: المهندس غسان جابر

الكذب في الواقع الفلسطيني ، بين الدعايات الانتخابية والواقع المرير ، بقلم: المهندس غسان جابر

“الناس لا يقولون ما يفكرون به، بل يقولون ما يُتوقّع منهم أن يقولوه… أما ما يفكرون به حقًا، فيبحثون عنه في غوغل.”

ـ سيث ستيفنز-دافيدويتس، كتاب الكل يكذب

في زمنٍ اختلطت فيه الحقيقة بالدعاية، وصار الكذب الانتخابي عادة، والوعود الفارغة خبزًا يوميًا، تقف فلسطين اليوم على مفترق طرق خطير. الكذب لم يعد مجرّد سلوك فردي؛ بل أصبح نمطًا عامًا يتسلل إلى السياسة، ويتجذر في الاقتصاد، وينخر النسيج الاجتماعي.

مقالنا هذا ليس فقط قراءة في الواقع، بل صرخة لفضح الممارسات التي تُنتج الوهم، وتعيد تسويقه كل دورة انتخابية، وتزرع فينا الإحباط بدل الأمل. فهل حان وقت المكاشفة؟ وهل يستطيع الإعلام، والوعي النقدي، والبث القضائي الإذاعي أن يعيدوا للحقيقة مكانتها؟

الكذب السياسي: وعود بلا رصيد

في المشهد السياسي الفلسطيني، أصبح الكذب أداة متكررة ومُبرمجة، يستخدمها بعض المرشحين كوسيلة للوصول إلى السلطة، دون اعتبار للتداعيات. وعودٌ بوظائف، ومشاريع عملاقة، وتحسينات خيالية تتبخر سريعاً بعد انتهاء الحملات الانتخابية، لتترك خلفها جراح الإحباط ومزيدًا من فقدان الثقة بين الناس والقيادة.

الأسوأ من ذلك، أن الكاذب السياسي لا يتراجع عند انكشاف الحقيقة؛ بل يُعيد تدوير الكذبة نفسها بصياغات جديدة، وكأن الزمن لا يحمل ذاكرة. تمر السنوات، ويُعاد المشهد ذاته، بنفس المنصات والشعارات، وربما بوجوه أكثر جرأة في التزييف.

الكذب الاقتصادي: وعود التمكين وسط الركام

في ظل الحصار والانهيار الاقتصادي، ووسط معدلات بطالة تجاوزت 80% في غزة وارتفعت بشكل مقلق في الضفة، تَستمر الخطابات الاقتصادية الانتخابية في الترويج للتمكين والازدهار. هذه الوعود لا تعكس الواقع، بل تخلق فجوة خطيرة بين ما يُقال وما يُعاش. ويؤكد كتاب الكل يكذب أن هذه الفجوة ليست فقط مدمرة للثقة، بل أيضًا للصحة النفسية العامة.

الكذب الاجتماعي: تفكك الثقة وتآكل النسيج

حين يصبح الكذب مقبولًا سياسيًا واقتصاديًا، فإنه يتسلل إلى العلاقات الاجتماعية. تتراجع الثقة، وتضعف القيم، ويتشكل وعي زائف يُبرر الأنانية والانقسام. أظهرت الدراسات أن أكثر من 84% من الفلسطينيين لا يثقون بالآخرين، وهذه النسبة تدق ناقوس خطر على البنية الأخلاقية والاجتماعية لمجتمعنا.

الإعلام والتزييف: بين تزيين الأوهام وكشف المستور

الإعلام، السلطة الرابعة، تحوّل في كثير من الأحيان إلى شريك في صناعة الوهم. بعض الوسائل المحلية باتت تُجمّل الأكاذيب الانتخابية، وتتغاضى عن التحقيق والمحاسبة، بينما الإعلام العبري يشن حربًا ناعمة على الوعي الفلسطيني، يُزيّف الوقائع، ويُشوه صورة الضحية.

لكن في المقابل، برزت مبادرات إعلامية فلسطينية مستقلة، تعتمد على التحقق من المعلومات، وتنقل جلسات القضايا علنًا عبر برامج البث القضائي الإذاعي، مما أتاح للمواطنين متابعة ملفات الفساد والانتهاكات عن قرب، وساهم في تعزيز الرقابة الشعبية وخلق حالة من الوعي الحقوقي الناضج.

البث القضائي: شفافية على الموجة

رغم أنه لا يزال محدود الانتشار، إلا أن بث جلسات المحاكمات والإجراءات القضائية عبر الإذاعة والتلفزيون فتح نافذة نادرة نحو الشفافية. هذه التجربة ساعدت المواطنين على فهم النظام القضائي، وفضحت محاولات التلاعب بالقانون، وأسهمت في خلق مساحة جديدة من المساءلة الإعلامية.

الكذب والانتخابات: بين خداع البرامج وتزيين الأوهام

تحوّلت الحملات الانتخابية في فلسطين إلى مسابقات في براعة الكذب. تُطرز البرامج بأحلام لا تتحقق، وتُسَوَّق الشعارات بلغة براقة، في حين يدرك المواطن في أعماقه أن أغلب ما يسمعه غير واقعي. ومع ذلك، يختار البعض التصويت للكاذب إما بدافع العشيرة أو الفصيل أو لانعدام الثقة بالبدائل.

والمفارقة المؤلمة أن الناخب يعرف الكاذب… لكنه لا يحاسبه. ليس لأنه غافل، بل لأنه مقيد، يائس، أو محبط من خيارات تبدو متشابهة في زيفها.

نحو وعي نقدي ومجتمع صادق

كتاب الكل يكذب لا يكتفي بوصف المشكلة، بل يدعونا لفهمها وتحليلها من جذورها. في فلسطين، الكذب أصبح جزءًا من “معمار الأزمة”، يُعيد إنتاج نفسه في كل محطة، ويغذي دورة الانحدار.

الطريق إلى التغيير يبدأ من هنا:


بإعلام حر، وبث قضائي شفاف، وثقافة محاسبة، ووعي جمعي يرفض الخداع ويُطالب بالحقيقة.
فقط حين نكف عن التصفيق للكذب، نمنح الحقيقة فرصة لاستعادة مكانتها، ونمنح أنفسنا فرصة للشفاء.

م. غسان جابر – مهندس وسياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية والبلدة القديمة في الخليل

شاهد أيضاً

5 شهداء بقصف إسرائيلي لمواصي خانيونس

شفا – استشهد خمسة مواطنين نازحين، وأصيب آخرون، في قصف إسرائيلي جوي استهدف خيمة تُؤوي …